تكتسب القمة الخليجية- الأوروبية التي عقدت يوم 16 أكتوبر الحالي في العاصمة البلجيكية بروكسل تحت عنوان «الشراكة الاستراتيجية من أجل السلام والازدهار»، أهمية كبيرة حيث تأتي في ظل قناعة من كافة الأطراف بضرورة البحث عن أسس واضحة لعلاقات استراتيجية تحقق مصالح الجميع، وتسهم في حل المشكلات التي يعاني منها العالم. لذلك فإن هذه القمة التي حظيت بتفاعل إعلامي واسع تعد نقلة مهمة في تعزيز علاقات الجانبين، وإطاراً عملياً يعكس التزامهما بالتعاون لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية، إذ تم الاتفاق على زيادة وتمتين التعاون السياسي والأمني والاقتصادي، في ظل التغيرات العالمية، وما تشهده منطقة الشرق الأوسط من اضطرابات سياسية تتطلب استجابة منسقة وعملية من الجانبين، وتعزيز الجهود الدبلوماسية لترسيخ الأمن وتحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي. وأولت دول مجلس التعاون الخليجي اهتماماً كبيراً ببناء علاقات راسخة وقوية مع الاتحاد الأوروبي منذ إعلان تأسيس المجلس عام 1981، وذلك إيماناً بأهمية هذه المواقف في تحقيق المصالح العربية عموماً والخليجية على وجه الخصوص. وقد تطورت هذه العلاقة كثيراً خلال السنين الماضية في مختلف المجالات مثل التجارة والاستثمار، والرقمنة، والتحول الأخضر، إلا أنها حظيت بنقلة نوعية وتاريخية عقب إعلان إقامة شراكة استراتيجية بين الجانبين في مايو 2022 وهو ما انعكس بجلاء على مظاهر التعاون التي تزايدت خلال العامين الماضيين. لذلك فإن هذه القمة يتوقع أن تعلن عن بداية عهد جديد من الشراكة بين الجانبين، لا سيما مع التطور التنظيمي اللافت الذي شهدته بحضور قادة ورؤساء الدول الخليجية والأوروبية للمرة الأولى، وهو ما انعكس إيجاباً على نوعية الملفات التي تمت مناقشتها خلال القمة، والصراحة والمكاشفة التي كانت عنواناً لأعمالها. فالقمة لم تكن مناسبة لتوقيع الصفقات التجارية فقط أو لالتقاط الصور التذكارية والمجاملات، بل ناقشت قضايا ساخنة تهم الدول العربية والإسلامية مثل المستجدات في قطاع غزة، ولبنان، وأمن البحر الأحمر وبقية الممرات المائية العالمية، والمخاطر التي قد تترتب على توسع الصراع العربي الفلسطيني في المنطقة. كما تم الاتفاق بين جميع القادة على تقديم الدعم اللازم لتنفيذ حل الدولتين، بوصفه ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، ودعم التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين الذي أطلقته السعودية. وكان لافتاً تركيز كثير من القادة الأوروبيين على استتباب أمن واستقرار المنطقة، وأهمية إيجاد حلول للأزمات القائمة في المنطقة، لأن ذلك يشكل أولوية رئيسية للاتحاد الأوروبي خصوصاً والاقتصاد العالمي على وجه العموم. ففي عالمنا المعاصر الذي نعيشه اليوم فإن اهتزاز المنظومة الأمنية في أي دولة يؤثر على العالم برمته، لا سيما مع بروز آفة الإرهاب. كذلك تم التأمين على ضرورة متابعة وتنفيذ توصيات المنتدى رفيع المستوى الذي عُقد بين الجانبين في أبريل الماضي في لوكسمبورغ، لا سيما تلك المرتبطة بمكافحة الإرهاب، وتأمين الملاحة البحرية والهجرة غير النظامية. إضافة لمناقشة قضايا الانتشار النووي، والأمن البحري والسيبراني، والجريمة المنظمة، وأمن الطاقة والإمدادات الغذائية وغيرها من القضايا ذات الاهتمام المشترك. وبطبيعة الحال لم تكن الملفات الاقتصادية غائبة عن أجندة القمة، فقد تم التوافق على تعزيز التعاون في مجالات الطاقة، وزيادة التبادل التجاري والاستثماري، ودعم التحول نحو الاقتصاد الأخضر، كذلك وجدت قضايا الحوكمة الاقتصادية وسياسات التنوع الاقتصادي اهتماماً كبيراً من القادة. كما تباحث المؤتمرون في قضايا البحث والابتكار، والتعاون التنموي، والتنسيق في مجال العمل الإنساني، وتعزيز مقومات الشراكة الخليجية الأوروبية بشكل كبير، والعمل بصورة مشتركة على منع حدوث أي اضطراب في سلاسل الإمداد، إقليمياً وعالمياً، والإسهام في تطوير سلاسل القيمة العالمية المستدامة. أما في المجال السياسي، فقد كان إصرار القادة الخليجيين واضحاً في ضرورة إيصال رسالة واضحة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لذلك دعا البيان الختامي للقمة إلى وقف فوري وكامل لإطلاق النار والإفراج عن الرهائن وتوزيع المساعدات. كما طالب بتنفيذ القرار الأممي 2735، وأدان الهجمات ضد المدنيين والبنية التحتية، وحث الجميع على الوفاء بالتزاماتهم، وأكد الحاجة لتقديم المساعدات فوراً وبلا شروط، وفتح كل المعابر ودعم أعمال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). كذلك أكد البيان التزام القادة الخليجيين والأوروبيين بتحقيق حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير من خلال حل الدولتين، مشيراً إلى دعمه الكامل لكافة جهود الوساطة، كما رفض التصعيد الخطير في لبنان ودعا لوقف إطلاق النار فوراً. لذلك فإن المكاسب التي حققتها دول الخليج من القمة تعتبر استثنائية وغير مسبوقة. وكعادته، خطف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، الأضواء خلال القمة، حيث تسابق قادة الدول الخليجية على لقائه للتباحث على زيادة التعاون الاقتصادي مع المملكة التي تبقى لاعباً أساسياً في دعم الاستقرار الإقليمي والدولي، من خلال الشراكات الاقتصادية التي تعزز التنمية المستدامة وعبر الدبلوماسية السياسية التي تسعى إلى إيجاد حلول سلمية للأزمات الراهنة. كما حققت السعودية نجاحات لافتة على المستوى الإقليمي والدولي لمناقشة التحديات الجيوسياسية الراهنة على الساحة الدولية. لذلك أتوقع أن تكون القمة بمثابة تتويج للعلاقات المتنامية بين الدول الخليجية والاتحاد الأوروبي، وتضع الأساس لمرحلة جديدة من التعاون المتكامل الذي يشمل الجوانب السياسية والأمنية، والاقتصادية، لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة، ويظل تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وأوروبا، من خلال شراكة استراتيجية متكاملة، هو الهدف المشترك الذي يسعى الطرفان إلى تحقيقه.