الأميركان والأوروبيون والعرب والدوائر البحثية العميقة وحلفاء ومناهضو "حزب الله" كلهم يبحثون في دلالة السؤال السياسي المركزي: ما هي السيناريوهات المفتوحة للحزب في لبنان لمرحلة ما بعد سقوط الرئيس بشار الأسد الذي يواجه ثورة شعبية منذ 15 مارس 2011 تطالب بتنحيته من سدة الحكم؟ حزب الله الحليف الاستراتيجي لطهران ونظام الأسد، أدرك بلغة "الواقعية السياسية" - كما تشير بذلك تحليلات سياسية وتقارير عميقة- أن ما يجري في سورية بات يفرض واقعاً جديداً داخل الدولة اللبنانية وخارجها بالنسبة إليه، فالحزب الذي يتمتع بأقوى مليشيا مسلحة بدأ يستشعر العزلة المتزايدة التي فرضتها عليه مواقف حلفائه والتي جرته إلى الركن الذي يبدو "خاسراً" في رهانات الربيع العربي وتداعياته. خيبة أمل حرص الحزب في أوائل أحداث الربيع العربي على الوقوف في صف "الثوار" والمطالبات الشعبية، وضاعف من مكاسبه عبر تمكنه السريع من تحرير سجنائه من مصر والمتهمين في القضية المعروفة باسم (خلية حزب الله) وأظهرهم في احتفالية جماهيرية في بيروت. وأبدى أمينه العام حسن نصر الله انتشاءه بنجاح ثورة تونس ومن بعدها مصر، التي كان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران على خامنئى أشاد بها وقال إنها اقتبست من روح "الثورة الإسلامية" التي أطاحت بنظام الشاه عام 1979. ولم يتخلف عن هذه "النفسية الاحتفالية" حلفاء الحزب في دمشق، ووصف بيان الحكومة السورية تنحي الرئيس حسني مبارك بأنه إسقاط لمعسكر "كامب ديفيد". إلا أن خطاب المحور الثلاثي (إيران– سورية – حزب الله) سرعان ما تغير بعد اشتباكات درعا وما تلاها من تفجر الأوضاع في الداخل السوري، التي اعتبرها الثلاثي ابتداء "أزمة" ثم "مؤامرة" تقوم بها العصابات المسلحة لتركيع سورية "المقاومة" على حد قول قيادات الحزب. ومع تتالي الأحداث في سورية بدأ موقف الحزب يقل في انتشائه بنتائج "الربيع العربي" التي بدأت تطل باحتمالات سقوط الحليف الكبير في سورية واختلاف المعادلة الإقليمية التي استثمرها الحزب لصالحه طيلة السنوات الماضية، وتواردت أنباء عن مشاركة عناصر مسلحة من الحزب في عمليات عسكرية قام بها الجيش السوري لفرض سيطرته على المدن والقرى السورية؛ مما دفع بالجيش السوري الحر إلى اعتبار عناصر وضباط حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية "أهدافاً مشروعة" في حربهم مع نظام دمشق. حزب الله.. بديل في اليمن الخبراء والمحللون السياسيون الذين تحدثت إليهم "الوطن" حول سيناريوهات هذا الملف تقاطعوا في مفصل مهم وهو أن طهران تحاول جدياً -عبر خطة بديلة- صناعة "حزب الله" الجديد في اليمن – في إشارة إلى الحوثيين- وبدؤوا بتنفيذ خططهم، إلا أنهم عادوا للتأكيد بصعوبة حدوث ذلك مرجعين الأسباب إلى اختلاف المعطيات السياسية بين اليمن ولبنان. على الأرض اليمنية هناك ذراعان لإيران هما جماعة الحوثي في صعدة والجناح العسكري المنشق عن الحراك الجنوبي بقيادة نائب الرئيس اليمني الأسبق علي سالم البيض (ما بعد الوحدة)، الذي صنع تحالفاً مع إيران بهدف الرجوع السياسي، وتشير معلومات خاصة إلى أن الرجل محاط بدائرة أمنية من "حزب الله". مدير مركز أبعاد للدراسات الاستراتيحية بصنعاء عبدالسلام محمد يؤكد خطط الإيرانيين لصناعة "حزب الله" البديل في اليمن عبر الحوثيين، ففي حال سقوط الأسد سيفقد الحزب أهميته السياسية والعسكرية لوقف شريان الحياة عنه – في إشارة إلى سورية- ومضى يقول "لكن عمل نسخة طبق الأصل في اليمن غير واردة نهائياَ لوجود قوة منظمة كبيرة على الساحة اليمنية وهو ذراع "الإخوان المسلمون" في اليمن التجمع اليمني للإصلاح الذي يعي جيداً هذه الحسابات ولن يسمح بحصول ذلك". وأوضح عبد السلام في سياق حديثه أن خطة إيران البديلة كان يمكن أن يحالفها الحظ إذا كان النظام اليمني السابق برئاسة علي صالح في سدة الحكم، نظراً للارتباطات الثنائية التي تكشفت بعد الأزمة اليمنية بين النظام والحوثيين في أكثر من صعيد عسكري. دعم دولة علوية في اللاذقية أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور خالد الدخيل يتقاطع كثيراً مع حديث عبدالسلام محمد في أن سيناريو "حزب الله" يقع فقط ما قبل سقوط عائلة الأسد وليس بعده، ولكنه تحدث عن وجود احتمال – وإن بدا ضعيفاً بالنسبة إليه- وهو أن الحزب سيدعم نحو إقامة دولة علوية مستقلة للأسد على شريط ساحل اللاذقية كمخرج أخير من أزمته، لكن الدخيل قال "إن المجموعات السورية سترفض مثل هذا المخطط، وليس أمام الحزب سوى خيار وحيد وهو تقديم خدماته العسكرية بالكامل إلى نظام دمشق لإطالة أمده السياسي واستحالة سقوطه الذي سيكون كارثياً عليه بكل معنى الكلمة". سيناريو قلب الطاولة في يوليو الماضي، نشر مركز الجزيرة للدراسات تقريراً مطولاً عن تداعيات الأزمة السورية على مستقبل حزب الله، وذكر التقرير معلومة مهمة تتعلق بتلقي دبلوماسي بريطاني خبير بالشرق الأوسط تقريرا عالي المصداقية والدقة وهو متداول في أوساط "حزب الله" القيادية، يقول "إن نصر الله زار سورية سرًّا عدة مرات أولها في يونيو 2011 لينصح الرئيس الأسد بإجراء إصلاحات عاجلة (مثل اعتقال قادة الأجهزة المسؤولين عن المجازر، وإجراء تشكيلات أمنية وإدارية مهمة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية فيها أغلبية من المعارضة تقوم بالإعداد لإصلاحات واسعة ودستور جديد وانتخابات نيابية ورئاسية، مع إبداء الأسد الاستعداد للتنحي لمصلحة نائبه فاروق الشرع، لكن الرئيس السوري رفض ذلك؛ الأمر الذي أقنع "حزب الله" بأن عليه الاستعداد لمرحلة ما بعد الأسد مع العمل الدؤوب للحفاظ على وحدة الأراضي السورية المهددة -على ما يقول التقرير المذكور-". ويطرح التقرير سيناريو "قلب الطاولة" في لبنان من جانب حزب الله بطلب من النظام السوري وفي محاولة يائسة لإنقاذه عبر تحويل الأنظار الدولية من سورية إلى لبنان، عبر خطة إيرانية - سورية ينفذها "حزب الله" وحلفاؤه للسيطرة عسكريًا على كامل الأراضي اللبنانية. أما السيناريو الثاني فهو إشعال الحزب جبهة الجنوب اللبناني مع إسرائيل التي تضطر للرد بقوة فتشتعل نيران حرب قد تغدو إقليمية شاملة، وبطريقة معاكسة، فهناك من يعتقد أن إسرائيل ستشن حربًا على إيران بسبب برنامجها النووي مستغلةً عزلة "محور الممانعة" الدولية، وتعمد في الوقت نفسه إلى تصفية حسابها مع "حزب الله". لكن المحللين الدخيل وعبد السلام استبعدا سيناريو توجيه الحزب ضربة عسكرية إلى إسرائيل مرجعين ذلك إلى الظروف التي تحول دون ذلك، وأن إقدامه على هذه الفعلة سيعود ب"الأضرار العكسية عليه قبل أي أحد آخر"، وهذا السيناريو يتوقعه الإسرائيليون من جانبهم ضمن خيار "هروب الحزب إلى الأمام"، واللجوء إليه كلفته عالية "مالياً وسياسياً" وسيؤثر بشكل كبير على وضعه في الساحة اللبنانية واحتمالات خسارته لرصيده الذي تم بناؤه طيلت السنوات الست الماضية. ويشير المراقبون إلى أن الحزب لن يبادر بفتح ترسانته الصاروخية (والتي يقدرها الإسرائيليون ب 80 ألف صاروخ) على شمال إسرائيل إلا في حالة بادرت الأخيرة بالهجوم على مقرات المفاعلات النووية الإيرانية، مع توقعاتهم باحتمالية أن تكون ضربات حزب الله "محسوبة" ولا تدخل في سيناريو الحرب الشاملة. أما السيناريو الكارثي الأخطر– وفقاً للتقرير- المتداول فهو حرب أهلية مذهبية تبدأ في سورية وتمتد نيرانها لتشعل لبنان والمنطقة بأسرها التي قد توضع تحت مبضع التقسيم.. ألم يهدد الرئيس الأسد بزلزال يضرب المنطقة إذا ما شارف نظامه على السقوط؟ فراق "الإخوان" يمضي التقرير إلى طرح سيناريو مختلف على المستوى السياسي هو بناء تحالفات جديدة مع الحكام الجدد في سورية لما بعد الأسد، إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن طريق إيران، وتشير بعض المعلومات غير المؤكدة إلى أن إيران فتحت مباحثات سرية مع الإخوان المسلمين السوريين الموجودين في تركيا، وقد هنَّأ حزب الله الرئيس مرسي لانتخابه "التاريخي" بمفردات فيها الكثير من الحماسة، وكذلك فعلت طهران، وتشير تلك المعلومات إلى اعتماد طهران في ذلك على علاقتها مع حماس التي يمكن أن تلعب دوراً في التقريب ما بين حزب الله والإخوان المسلمين المصريين الذين قد يتوسطون لدى إخوانهم السوريين المرشحين للعب دور في سورية الجديدة من أجل تطبيع العلاقات مع "حزب الله". ومصر مؤهلة للعب دور بين الإخوان السوريين وإيران. لكن هذه المعلومة ينفيها معارضون محسوبون على الإخوان في المجلس الوطني السوري تحدثوا بها إلى "الوطن" مؤكدين بعدم إمكانية ذلك لاعتبار أن الحزب "شريك في إراقة دماء السوريين". لا تنتهي خسائر الحزب عند خصومه التقليديين، فحلفاؤه "التقليديون" أيضاً باتوا يضعون مسافة بينهم وبين مواقفه التي يرونها أضحت متواطئة مع المعسكر المضاد لاتجاه ثورات الربيع العربي. الإخوان المسلمون وهم "الرابح الأكبر" حتى الآن من نتائج الثورات العربية بات خطابهم تجاه الحزب أقل حماسة مما سبق، ولعل الحال التي وصلت إليها حركة حماس بإعلان خروجها "الصامت" من تحالفها السابق مع النظام السوري ومغادرة قادتها دمشق إلى عواصم متعددة وتنديدها بالانتهاكات التي يمارسها النظام ضد المظاهرات السلمية دليل على عمق الهوة التي باتت تفصل بين الإخوان ومحور الممانعة السابق وفي القلب منه "حزب الله". ولا تتأكد الأنباء عما إذا كان التجميد قد طال العلاقات العسكرية والتنسيق الأمني بين الحزب وحماس في لبنان وغزة، وإن كانت المؤشرات العامة تشير بمجملها إلى تراجعه بشكل كبير. ولم يخفف من هذه العزلة الإخوانية التي فرضت على الحزب سوى دعوة وجهها إليه حزب النهضة التونسي لحضور مؤتمره العام في تونس، وهي الخطوة التي قوبلت باستهجان إسلامي واسع.