الخطوة الأولى لدخول بوابة الفلسفة والتعرف على تاريخها ودراسة النسق العام لمجمل أفكار الفلاسفة عبر الأزمنة، يتطلب منا وقبل أي شيء أن نضعها في سياقها الثقافي والديني الصحيح. الفلسفة ليست مشتركا إنسانيا، فهي تراث ديني للشعوب اليونانية والأوروبية. وعلى هذا الأساس يفترض بنا التعامل معها وقراءتها للتعرف على تاريخ الشعوب وثقافاتها ومعتقداتها الدينية، وكيف نتأثر نحن بها. فالشعوب بثقافاتها وأديانها المختلفة تعيش في حالة من التثاقف المستمر الذي قد يصل أحيانا مستوى الصراع. الفلسفة وعبر تاريخها الطويل عاشت حالة صراع مع الشرائع السماوية، وظلت حتى عصرنا الحديث في حالة شد وجذب معها. فقد استمر تراث اليونان الديني في هيمنته العقلية على شريحة واسعة من الشعوب الأوروبية الحديثة، ويمكن ملاحظة ذلك في مجمل أعمالهم الأدبية ونتاجهم الفني والسينمائي، كما يمكن تتبع أثره في سلوكهم الاجتماعي وأسلوب حياتهم وطريقة تعايشهم مع أتباع الشرائع السماوية. وكما ذكرنا مرارا وتكرارا في مقالات سابقة أن الفلسفة -عبر تاريخها الطويل- يمكن اعتبارها نسقا من الأفكار والمناهج يساعد على تأويل وتفسير عقيدة «وحدة الوجود»، وهي عقيدة مهيمنة على الشعوب اليونانية ويمكن اعتبارها الفكرة التي تسود تصوراتهم الجماعية. وهنا نأتي للفكرة الرئيسة لمقالتنا اليوم: هل عقيدة وحدة الوجود فكرة بدائية وبالتالي يمكن اعتبار التفلسف كذلك سلوكا بدائيا أم أن الفلسفة لها جذور تاريخية ذات أصل بدائي؟ هناك حقيقة يجب أن نضعها في عين الاعتبار وهي: أن المؤمنين بعقيدة وحدة الوجود يفكرون ويعيشون في عالم لا يتفق مع عالمنا من عدة أوجه، لأن لهم نظام تصورات يفرض عليهم كثيرا من الأسئلة الوجودية غير الموجود بالنسبة لنا، لذلك تبدو أفكار الفلاسفة غامضة ومبهمة وغير مفهومة وأكثر تعقيدا وتشعبا من أفكار المؤمنين بالشرائع السماوية. فالفلاسفة ينطلقون من مبادئ عقلية مختلفة يمكن اعتبارها بدائية أو تعود لأصل بدائي. يؤمن الإنسان البدائي بالأرواح بشكل مختلف عن الإنسان المتحضر، فالبدائي يؤمن بأن الأرواح تسكن كل شيء يحيط بنا، ما يجعل الحياة بالنسبة له تدب في الأشياء الطبيعية من حيوانات ونباتات وكائنات جامدة، فالأرواح تسكن الأنهار والصخور والبحار والجبال، والآلهة تسكن بجوار البشر، وتحرك الكون وتديره بشكل غير منفصل عنه، أي أن الإله هو الكون والكون هو الإله، وهذا هو لب وجوهر عقيدة وحدة الوجود، العقيدة الرئيسة عند الفلاسفة عبر التاريخ. القوى الغيبية المبهمة المعالم حاضرة في كل مكان من عالم الشعوب اليونانية، فهم لا يصدقون إلا ما تراه أبصارهم، وأفكارهم لا تتجاوز المدى الذي تصل إليه حواسهم، لذلك اخترعوا لهم آلهة وأبناء آلهة تعيش وتتواصل معهم بشكل مباشر، وصنعوا من الحجارة والفخار آلهة بملامح وهيئات بشرية. وأصبحت الآلهة تحل في أجساد البشر وأغصان الأشجار وقمم الجبال وأعماق البحار والمحيطات. في كتابه «العقلية البدائية» يقول عالم الاجتماع الفرنسي ليفي بريل: «البدائي لا يفرق بين عالم الغيب وعالم الشهادة ولا بين الواقعي المحسوس وبين ما يختفي وراءه، ولكنه يعيش حقا مع الأرواح غير المنظورة والقوى غير المحسوسة. بل إن الحقائق الغيبية أكثر واقعية في نظره مما عداها. هذا إلى أن عقيدته تكشف عن نفسها في أتفه أفعاله وأهمها على السواء. فكل حياته وسلوكه مشبعان بهذه العقيدة». نستطيع من حديث ليفي بريل تبين الأصل البدائي لعقيدة وحدة الوجود، فقد كان بريل يتحدث في حقيقة الأمر، وإن كان بشكل غير مباشر، عن عقيدة وحدة الوجود. فأفكار الشعوب اليونانية ومعتقداتها استطاعت تجاوز الحدود الضيقة التي خلقها «الإنسان البدائي» وتطور من مفاهيمها، وتقتبس كثيرا من تعاليم الأديان السماوية بل وتؤثر في الأديان السماوية نفسها وتدخل في بنيتها الداخلية مزيجا متجانسا من العقائد البدائية والمبتدعات الدينية. والفلسفة ومجمل أفكار الفلاسفة منذ عصر اليونان القديمة حتى عصر أوروبا الحديثة، هي خليط متجانس من معتقدات وأساطير بدائية تطورت مع مرور الأجيال.