يتميز عصرنا الحالي بوفرة معلومات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشر، وهذه النعمة الكبيرة التي تسهل على الباحث والإنسان بشكل عام الوصول للمعلومات والتفكر والتأمل والبحث لا تخلو من آفات، ولكل زمان آفاته، ومن أكبر ما يشوش على الباحث في هذا العصر هو تدليس العلمويين الذين يلوون ألسنتهم بالخرافات لتحسبها من العلم وما هي من العلم في شيء، ولكن من أكبر محاذير مواجهتهم وكشفهم هو الوقوع في مناصرة الجهلويين الذين ينفرون الناس من العلم والبرهان ليسهل عليهم التدجيل، وبطبيعة الحال فإن كل فريق يسعى لفضح ومهاجمة الطرف الآخر للترويج لتدجيله، والفريقان يشكلان نفس الخطر، ولا يختلفان إلا في الأسلوب؛ لذلك وجب توضيح الطريق السليم الذي يجب أن يسلكه الباحث والمتأمل، وحتى المتلقي العادي بين الآفتين. في البداية فإن المدلس ليس مجرد كاذب عادي تستطيع اكتشاف كذبه بالتأكد من المصدر، فللمدلس أساليب ومهارات تصعب كشف كذبه؛ فهو يأتيك بمصادر ومراجع صحيحة، ولكنه بمهارة يعيد صياغة المعلومة بطريقة توحي للمتلقي غير المتأني بالمعنى الذي يريده، أو يضيف أو يحذف جزءا من المعلومة من سياق معين بمهارة، بحيث يكون الظاهر هو المعلومة التي يريد ولهم أساليب كثيرة من هذا النوع. أما تعريف العلموي بحسب فيلسوف العلوم كارل بوبر، فهو: من يتعامل مع الأساليب العلمية بشكل دوغمائي، وأيضا وضعت أستاذة الفلسفة «سوزان هاك» ست علامات للعلموي منها أنه يستخدم العلم للإجابة عن أسئلة خارج إطار العلم، ومن الأمثلة -والأمثلة كثيرة- احترت في اختيار أيها يناسب المقام، فمثلا طالعتنا الصحف والمواقع الإخبارية بخبر عن دراسة أجريت حديثا تدرس علاقة اقتناء الحيوانات الأليفة والكلاب بالذات بالصحة العقلية، وما إن نُشرت الدراسة حتى انتشرت عناوين مثل «العلاج بالكلاب للمرضى المصابين بالخرف» و«امتلاك الكلاب يقلل من خطر الإصابة بالخرف بنسبة 40 %»... إلخ، ولكن عند الرجوع للدراسة نفسها تجدها تتحدث عن علاقة الكلاب بكسر عزلة كبير السن وتشجيعه على رياضة المشي والاحتكاك بالناس فقط، بل إن بعض المختصين شكك في آلية الدراسة وقال ربما أن هذه الشريحة من الناس الذين يمتلكون حيوانات أليفة يتميزون بأشياء أخرى، مثل أن دخلهم أعلى ورعايتهم الصحية أفضل. ولكن على سبيل المثال المدلس يقوم بأخذ عناوين أخبار هذه الدراسة أو جزء منها ليستخدمها كلبنة يبني بها مشروعا ما يوافق هواه، بناه من عشرات اللبنات، كلها أو أغلبها من هذا النوع الذي ظاهره علمي وباطنه خرافات، فإذا شيّد هذا المشروع بدا للإنسان غير المتفحص أنه مشروع «علمي» متماسك ومصادره ومراجعه قوية، وبعد ذلك يقوم مدلس آخر بأخذ هذا المشروع ليستخدمه كلبنة من ضمن لبنات أخرى لا تخلو من نفس التدليس، ليشيد مشروعا آخر، وهكذا دواليك، ولكن إذا دقق المتأني في كلامهم، وتفحص التفاصيل سيجدها خرافات حاول أصحابها تدثيرها برداء العلم ليكسبوها حصانة والعلم منهم براء. كما يُدثر آخرون خرافاتهم بالدين ليكسبوها حصانة والدين منهم براء. لذلك في البداية على المتلقي أن يضع المبادئ العقلية الأولى فوق أي علم وقبل كل شيء، ثم إن العلوم أنواع ابتداءً بالعلوم الطبيعية، وبرغم أنها من أكثر العلوم يقينا ويجد المدلس صعوبة في التدليس فيها، ولكنه يعوض ذلك بالتدليس في تفسيرات وتأويلات تلك العلوم. أما العلوم الإنسانية فهي مجال خصب للمدلس لذلك يتطلب من المتلقي جُهدا أكبر في تنقية ما هو قطعي مما هو ظني، والتي يحرص المدلس أن يوهم المتلقي أنها من الجنس نفسه، وبممارسة رياضة التنقية هذه يكسب الإنسان مهارة في معرفة الغث من السمين، وهذا هو السبيل الذي يمكن به مواجهة آفة التدليس.