حرص الرئيس الأمريكي على أن يعلن بنفسه عزم الولاياتالمتحدة على إنزال مساعدات إنسانية جواً فوق قطاع غزّة. إذا لم يكن جو بايدن وإدارته مدركَين أن هذه قمة المهازل في ذروة مآسي غزّة، فإن العالم إزاء قوّة دولية عظمى تستطيع إيصال كل الأسلحة الفتاكة وأدوات الدمار الشامل إلى الحليف الإسرائيلي، وتعجز عن مطالبته وإلزامه بفتح المعابر لإدخال المواد الأساسية وتفادي مجاعة تدهم سكان القطاع الفلسطيني. لكن المجاعة كانت مطلوبة، والكارثة الصحية والبيئية مطلوبة، وإذلال الانسان في غزّة وعموم فلسطين كان ولا يزال مطلوباً. 150 يوماً مضت على حرب وحشية ضارية طُرحت خلالها يومياً ضرورة توفير مساعدات، غير أن واشنطن وحلفاءها الغربيين دعموا الحصار الشامل لغزّة لمجرّد أن إسرائيل اعتبرت إبادة الشعب من وسائل «القضاء على حماس». حتى أهم لم يعترضوا على التفاصيل الدقيقة التي كرّرها قادة إسرائيل وأصرّوا عليها: لا ماء لا غذاء لا دواء لا كهرباء ولا وقود... (راجعوا ما عُرض أمام محكمة العدل الدولية). على عكس الأسى الزائف الذي يجري إظهاره الآن مع ظهور نتائج التقتيل والتدمير، كان الدعم للحصار صريحاً ومطلقاً، وكان الإسرائيليون وحلفاؤهم يعرفون تماماً أنهم واصلون بلا شك إلى التجويع والتعطيش وحرمان المشافي من الأدوية ومن الوقود لتعطيل المعدات الطبّية وقطع الأوكسجين عن الأطفال والمرضى وترك الجرحى ينزفون حتى الموت... هذه كلّها تُستخدم الآن كأدوات الضغط الأخير على «حماس» كي تستسلم، أو تقبل على الأقل «ورقة باريس» الجديدة التي صيغت لمصلحة إسرائيل، وفقاً لإملاءات موازين القوى، ولم تأخذ بالمطلب الأساسي ل«حماس» وهو إنهاء الحرب أو الوقف الشامل لإطلاق النار. فالاتفاق المقترح الذي دعمته واشنطن وقدّمته على أن «الممكن» الوحيد يوفّر فقط «هدنة موقتة»، وليس «مستدامة». وسواء وافقت «حماس» على الاتفاق أو طلبت تعديله أو رفضته فإنها موعودة باجتياح معقلها «الحربي» الأخير في رفح، وهو أيضاً الملاذ الأخير للنازحين. ومن الواضح أن واشنطن تؤيّد هذا الاجتياح، لأن منطق الحرب يفرضه، لكنها تتظاهر بالإلحاح على تهجير قسري آخر للسكان إلى منطقة أخرى «آمنة» ولن تكون آمنة. يوم الخميس (29.02.2024) احتشد السكان في جنوب غربي مدينة غزّة، حيث تفاقمت حالات الجوع كما في كل مناطق شمال القطاع (700 ألف شخص)، للحصول على مساعدات غذائية للمرة الأولى منذ فترة طويلة جداً. كان الشحنة المرتقبة تحمل طحيناً إلى منطقة تناقلت وكالات الأنباء أن سكانها استخدموا علف الحيوانات لصنع ما يشبه الخبز. وصلت الشاحنات التي أجاز الإسرائيليون دخولها إلى دوار النابلسي وأحاطت بها الحشود ثم راح الجنود القريبون من المكان يطلقون النار. قُتل 118 شخصاً وأصيب 750. تلك كانت «مجزرة الطحين» أو «مجزرة الجوعى»، وكانت مبرمجة ومتعمّدة. قال الجيش الإسرائيلي أولاً إنها «مأساة» نجمت عن تدافع الاشخاص ودهسهم بشاحنات الإغاثة، وبعدما تبين أن معظم الضحايا والجرحى أصيب في الرأس والصدر اضطر للقول إن الجنود «شعروا بتهديد» فأطلقوا النار. لم يكن هناك تهديد، كان هناك جوع، كما في مجزرة مماثلة في دوار الكويت ضد منتظري الطعام (25.01.2024)، وقبلها مجزرة ضد حشد لتعبئة المياه في دير البلح (07.02.2024). وسط استنكار عالمي واسع لهذه الواقعة لم تجد واشنطن سوى القول إنها تبحث عن معلومات، ثم القول إنها لم تتلقَّ ما يكفي للتحقّق من رواية الجيش، وهكذا تنصّلت من إدانته. قبل ذلك كانت تلقفت «تقارير» إسرائيلية (27.01.2024) عن مشاركة فلسطينيين يعملون مع «الأونروا» في «هجوم السابع من أكتوبر»، ولم ترَ وجوباً للتحقّق بل قررت فوراً تعليق مساهمتها المالية في الوكالة الدولية الوحيدة التي تقدم مساعدة للشعب الفلسطيني، وبعد أسابيع (23.02.2024) شكّكت «الاستخبارات الوطنية الأمريكية» في دقة المعلومات الإسرائيلية وقالت إن «الأونروا» تنسق مع «حماس» للعمل في غزة لكنها ليست في «شراكة» مع الحركة. ولأن هذا التقويم الاستخباري الأمريكي يسفّه الادعاءات الإسرائيلية فإنه لم يحظَ بتغطية إعلامية، والأسوأ أن إدارة بايدن لم تستند إليه لإعلان معاودة تمويلها للوكالة، فهي تأخذ في الاعتبار حقد إسرائيل على «الأونروا» وسعيها إلى حلّها واستبدال منظمات دولية أخرى بها. قبل ثلاثة أيام من «مجزرة الطحين»، في 26 فبراير الماضي، قدّمت إسرائيل تقريراً طلبته محكمة العدل الدولية عن «امتثالها» للإجراءات العاجلة وإثبات عدم انتهاكها اتفاق منع الإبادة الجماعية. لم يُنشر التقرير، لكن إسرائيل استبقته بتسريبات مفادها أنها «نفذت» مضمون قرار المحكمة الصادر في 26 يناير الماضي، وفيه: «اتخاذ كل التدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية، منع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على جريمة الإبادة الجماعية، والقيام بخطوات فورية وفاعلة لضمان توفير المساعدة الإنسانية للمدنيين في غزة». بالنسبة إلى «التدابير» المطلوبة أقدم القوات الإسرائيلية، بعد قرار المحكمة، على مزيد التدمير في خان يونس وأرغم سكانها على النزوح قسراً نحو رفح واقتحم مجمع ناصر الطبي وأخرجه مع مستشفيين آخرين عن الخدمة واعتقل معظم الأطباء والكوادر الطبية وترك المرضى والمصابين بلا رعاية. أما «منع التحريض ومعاقبته» فيكفي التذكير بأن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أعلن دعمه الجنود الذين أطلقوا النار في «مجزرة الطحين» ودعا إلى التوقف عن إدخال المساعدات إلى غزةّ، وكان المستوطنون من محازبيه سيّروا تظاهرات إلى ميناء أسدود ومعبر كرم أبوسالم لمنع مرور المساعدات. وأمّا ما طلبته المحكمة من «توفير للمساعدات» فتوضح تقارير العاملين في «الأونروا» و«برنامج الغذاء العالمي» أن الصعوبات الأمنية أجبرتهم على وقف خدماتهم. ويُشار هنا إلى قول وزير الخارجية الفرنسي في مقابلة مع «لوموند» إن «مسؤولية منع وصول المساعدات إلى قطاع غزة هي إسرائيلية». على رغم حاجة إسرائيل الى إظهار أنها بذلت جهوداً للتخفيف من مسؤوليتها عن التدهور الحاد للأوضاع الإنسانية في غزّة، فإن تعريف الإبادة الجماعية بأنها كل الأفعال المرتكبة للقضاء على أي جماعة «بإخضاعها عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلّياً أو جزئياً». وأشارت صحف عبرية إلى أن التقرير الموجّه إلى محكمة لاهاي يعوّل على العدد الإجمالي لدخول شاحنات المساعدات منذ بدء الحرب كي يدفع الاتهامات الموجّهة إلى إسرائيل، غير أن المكتب الأممي لتنسيق المساعدات الإنسانية (أوتشا) أظهر أن متوسط دخول الشاحنات قبل الحرب كان 500 يومي لكنه بلغ 156 يومياً خلال الأسبوعين السابقَين لقرار المحكمة ثم هبط بعده إلى 57 وحتى إلى 20 في بعض الأيام. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»