المنهج العلمي ينظر إلى الأدلة جميعًا، فهو ينظر بعينين، لا بعين واحدة، لكنَّ بعض من تكلّم باسم العلم، صار يحذّر من كل صداقة، أو مؤاخاة حتى مع مسلم ما دام يرى أنه خالفه في بعض ما يعتقد، ويستدل لذلك بكل ما يقدر عليه، دون أن يرى في تمزيق المجتمعات أيَّ غضاضة، وفي سبيل هذا يعمد إلى اختيارات شخصية لبعض الفقهاء المتقدمين، ويجعلها دينًا، رغم أنَّ أفعال البشر يستدل لها، ولا يستدل بها، لكنَّ هؤلاء قد جعلوا عمدتهم أقوالًا دون أقوال، معزولة عن سياقها، وأسبابها، ومن المعلوم أنَّه قد تقرر في أصول الفقه أنَّ الأحكام الشرعية تبنى على أدلة إجمالية، وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، فلا يعتد في بناء الحكم على قول واحد خالفه غيره، فليس قوله بأولى من قول غيره من أقرانه، أو ممن يفوقه علمًا ورتبة، والعبرة بالإجماع، لا قول واحد تقدّم. وتجد هؤلاء يجعلون قولًا لسفيان الثوري مثلًا بأنه قال في الربيع بن صبيح، وقد سأل عن مذهبه فقيل له: هو من أهل السنة، فسأل عن بطانته، فقالوا: القدرية، فقال: هو قدري، ليستدلوا بذلك على وجوب هجرة المخالف في المعتقد، رغم أنَّ سفيان من المحدّثين، ومقصد المحدّث في معرفة المذهب العقدي الذي ينتمي إليه الراوي يختلف عما يصوّره هؤلاء، إذ قد يتقي من تصحيحه لبعض حديثه ما ينصر به مذهبه، والربيع بن صبيح من أهل البصرة، وقد قال أحمد بن حنبل: «نحن نحدث عَنِ القدرية، لو فتشت أهل البصرة وجدتَ ثلثهم قدرية»، وسفيان نفسه كان يروي عمن يخالفه في المعتقد، فروى على سبيل المثال عن ثور بن يزيد الحمصي، وهو قدري، وروى عن جابر الجعفي من شيعة الكوفة، وكان يثني عليه، وغيرهما. ولو كان مذهب سفيان كما يصوّره أولئك الذين ينظرون بعين واحدة، لما روى عمن خالفه في المعتقد، وهذا كله في الرواية الدينية، التي هي أشدُّ ما يكون من التحرّز، فكيف بمعارفه في غيرها؟ لكنَّ هؤلاء يأخذون من سفيان ما يروق لهم، ولا يجيبون كيف أثنى على جابر الجعفي في الرواية؟ ولو كانت المسألة أنه مخاصم لكل من خالفه، كيف يفسّرون جلوسه مع من يخالفونه ثم يروي عنهم، أيتخيّلونهم قد حدّثوه كرهًا، وهو عابس الوجه، لا سلام ولا كلام معهم؟ ورغم ذلك فليس سفيان وغيره معصومين، ولذا لا يعتبر قولهم حجّة ما لم يتفق المسلمون على قوله، هذا لو سلّم المرء بصحة فهم هؤلاء عنه. ويستطيع الإنسان أن يجد متخاصمين في المجتمعات الإسلامية الأولى، لكنّه كذلك يستطيع أن يجد متوافقين، متآخين رغم الخلافات في الرأي والمعتقد، ففي مواضع الخصام، ذكر ابن حزم (456ه) في رسائله: «السيد الحميري كيساني شيعي، وأبوه وأمه خارجيان، يلعنهما ويلعنانه»، فهذا من الخلاف في البيت الواحد، وفي الجانب الآخر لم تمنع الخلافات من وجود صداقات، وتصافٍ بين المختلفين في المعتقد، ويبرز فيهم أسماء لأئمة من أهل السنة، قال: «سليمان التَّيمي إمام أهل السنة، والفضل الرقاشي إمام المعتزلة، كانا صديقين إلى أن ماتا متصافيين، وتزوج سليمان بنت الفضل، وهي أم المعتمر بن سليمان»، «داود بن أبي هند إمام السنة، وموسى بن سيار من أئمة القدرية، كانا صديقين متصافيين خمسين عامًا لم يتحارجا قط»، «عبدالرحمن بن أبي ليلى كان يقدّم عليًا على عثمان، وعبدالله بن عكيم كان يقدّم عثمان على عليّ، وكانا صديقين لم يتحارجا قط، وماتت أم عبدالرحمن فقدم للصلاة عليها ابن عكيم»، «طلحة بن مصرف وزبيد اليامي، صديقنا متصافيان، وكان طلحة يقدّم عثمان، وكان زبيد يقدّم عليًا، ولم يتحارجا قط». فلمَ يصرُّ هؤلاء على جعل الدين يدور على ما نقل في الخصومات، لا من مواطن نقل الاتفاقات، والصداقات؟ والله عز وجل يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ونحن أحوج ما نكون لمن يعزز اللحمة الوطنية، لا من يسعى لتوسيع الشروخ، ويحيي مواطن الخلاف في المجتمع الواحد، ويبث فيهم كأنَّ الدين يأمرهم أن يتقاطعوا، ويتدابروا، بدل أن يحثهم على الإخاء، والنقاش الحضاري فيما بينهم إن أرادوا ذلك، وإلا أظهر كل واحد لغيره جميل ما عنده.