في أول رد صحفي على تفجير البصرة، سمى الكاظمي منفذي الجريمة بأنهم فرق الموت، وليس بمقدورهم إرهاب الدولة، وسيقدمهم للعدالة عبر القانون بدلا من الدخول بالمواجهة معهم، وكأن إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم ليست مواجهة بل حفلة تنكرية يقيمها لهم بهذه المناسبة. بمحاذاته يتذكر الكاظمي ملف قتلة متظاهري انتفاضة أكتوبر ويستله من أرشيفه، ليلوح به بين الحين والآخر في كل حادث أمني يمس حاشيته من رجال المخابرات. ويكاد يكون استعمال الملف المذكور أقرب إلى ملء الفراغات في رده الدعائي أكثر مما هو مادة للاستهلاك الإعلامي لذر الرماد في عيون الجماهير بأنه ما زال يتابع تحقيقات قتلة المتظاهرين. فكل الوقائع تشير حتى الذين حاولوا اغتياله لا يمكن الإفصاح أو الكشف عن أسمائهم أو الجهة التي تقف وراءهم، فما بالك بالكشف عن قتلة المتظاهرين، لأنه ببساطة أن دويلة فرق الموت أو محور المقاومة والممانعة أقوى من مشروع الدولة التي يريد بناءها الكاظمي بسواعد مليشيات الصدر والدعم الأمريكي والدولي. واللوحة الأمنية الأخرى التي يجب الوقوف عندها، هي زيادة وتيرة فعاليات ونشاطات عصابات داعش واتساع رقعة عملياته النوعية في عدة محاور وفي آن واحد، في قواطع أربيل وكركوك وديالى ونينوى، على الرغم من إعلان الانتصار عليه منذ عام 2017، وهذه مرتبطة ومتداخلة مع الفعاليات والنشاطات السياسية لعناصر الميليشيات التي سماها الكاظمي بفرق الموت؛ من التظاهرات ومحاولات إبطال نتائج الانتخابات في المحكمة الاتحادية، وصولا إلى المحاولة الفاشلة في اغتيال رأس مشروع (الدولة) وآخرها وليس أخيرها التي انتهت بعملية تفجير في البصرة ولم تثبت أي علاقة بينها وبين تنظيم داعش، الذي أودى بحياة أبرياء وجرح أكثر من 20 شخصا. وتكشف هذه اللوحة عن مسألتين: الأولى استمرار الظلم الطائفي في المناطق التي تنشط فيها عصابات داعش وتجد حاضنة اجتماعية لها، والثانية أن فرق الموت التي تحتمي تحت مظلة محور (المقاومة والممانعة) بحاجة إلى داعش وعملياته كي تستمد شرعية وجودها خاصة بعد إعلان طي صفحة العمليات القتالية للوجود الأمريكي في العراق، وتصبح هويتها (المقاومة والممانعة) فاقدة الصلاحية، وهي التي أصدرتها أيام انتفاضة أكتوبر وتحديدا بعد قتل قاسم سليماني على يد القوات الأمريكية. فهذه المليشيات بحاجة إلى مبررات لاستمرارها في انتزاع ملياري دولار من الموازنة السنوية لها والاستمتاع بنفوذها الاقتصادي والسياسي. المشاهد السياسية التي تمر بالعراق في كل مرة هي محطات تفرض النزول عندها ولا يمكن العودة إليها. وفي كل محطة سياسية تشتد الأزمة السياسية بسبب اشتداد الصراع على السلطة، وعند كل محطة يعتقد المتصارعون أنهم حسموا الانتصار لصالحهم على حساب الطرف الآخر، إلا أن الوقائع تثبت دائما أن كل واحد يمسك بخناق الآخر ولا يمكن الفكاك سوى بغرق الجميع. وتأتي ادعاءات الصدر بتشكيل حكومة أغلبية في سياق عملية ابتزاز سياسي ومحاولة لانتزاع تنازلات سياسية من منافسيه من إخوته الأعداء في البيت الشيعي أو اسمه الحركي الجديد وهو الإطار التنسيقي. وحكومة الأغلبية تعني بلغة الصدر هي تنحية جناح ومليشيات فتح -دولة القانون من الحكومة الجديدة أو في أحسن الأحوال ترويضهم، وتنظيف المفاصل والمؤسسات الحكومية من براثنهم. في الطرف الآخر من العملية السياسية تلعب الأحزاب القومية الكردية دورا في رص صفوف لما يسمى بعرب السنة وإعادة اللحمة إلى وحدة البيت الشيعي، لأن العملية السياسية قائمة على المحاصصة، ودون المحاصصة فلا حتى كسرة خبز لهم في السلطة. أي بمعنى آخر كانت الانتخابات الأخيرة المحطة الجديدة، كما كانت انتفاضة أكتوبر محطة سبقتها، فالعراق بعد هذه الانتخابات لن يكون هو نفسه قبل الانتخابات. وهذا يعني بالتحليل الأخير؛ أولا من الوهم الظن بأن قوى الإسلام السياسي الموالي لإيران سوف تستسلم أو ترضى بقسمتها، فمحاولة اغتيال الكاظمي وتفجيرات البصرة والتطهير الديموغرافي في قضاء المقدادية بشكل علني وسافر ووقح بعد ما حدث في قرية (نهر الإمام) على يد عصابات داعش في محافظة ديالى توضح دون أي لبس أن شتاء هذا العام لن يمر دون أيام لا يتخللها برد زمهرير. وثانيا أن عود داعش سيقوى من جديد وستزداد عملياته الإجرامية ليس بسبب الحاضنة الاجتماعية فحسب بل إن من يغذيها ويغض الطرف عن تسلسلها من مصلحته أن يبقى داعش، فهو أفضل ورقة للعب بها. وطالما ظل الظلم الطائفي بالمعنى المطلق الذي يختزل كل ممارسات السلطة السياسية من التغيير الديمغرافي والتطهير الطائفي، واستمرار معاناة مئات الآلاف في مخيمات النازحين، وخراب المدن بفعل الحرب على داعش دون بصيص أمل في الأعمار، فالأحمق بامتياز من يظن أن نهاية لداعش ستحل عبر العمليات الأمنية ووعيد وتهديدات الكاظمي وتجديد الوجود الأمريكي مرة تحت عنوان مهمات قتالية وأخرى للتدريب والمشورة. أما المسألة الثالثة فإن الأمن والأمان ليس بمقدور الكاظمي تحقيقهما لجماهير العراق، وسيبقى قتلة المتظاهرين خارج سور العدالة، وسيبقى سيف المليشيات مسلطا على رقاب الجماهير والمجتمع. إن تجربة حكومة الكاظمي سواء في إقصاء فرق الموت من حياة الجماهير أو بإنهاء داعش لن يكون عبر جعجعات الصدر المحمية بمليشياته، أو عبر دولة الكاظمي غير المرئية سوى على رقاب طالبي الحرية والخبز والعيش الكريم، والانتظار يعني إطالة عمر هذه الميليشيات وتطاولاتها، بل عبر تنظيم حركة سياسية اجتماعية جماهيرية ضد انعدام الأمن والأمان والمطالبة بحل الميليشيات بجميع فصائلها بما فيها الحشد الشعبي وتقديم قتلة متظاهري انتفاضة اكتوبر إلى المحاكم العلنية، والسعي لتسليح تلك الحركة بآفاق وسياسات إنهاء الظلم الطائفي في العراق، والإقرار على هوية تعرف البشر على أساس المواطنة والهوية الإنسانية.