إنَّ الاغتيالات في العراق ليست عملاً جنائياً فحسب، بل سياسياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كما هي ليست فردية أو حوادث متفرقة، بل أنشطة منظمة لأهداف سياسية هدفها الأول القضاء على أي انتفاضة شعبية من خلال تصفية القيادات الشابة النشطة والإعلاميين، وبث الرعب في نفوس الآخرين، في ظل تقاعس الجهات الرسمية وصمتها، والتي لم تتخذ إجراءات ترقى إلى مستوى الحدث على الرغم من وجود أجهزة أمنية متخمة بالمنتسبين إليها. لكن الحقيقة التي يعرفها العراقيون جيداً أن كل من يمثل خطراً على مشروع الولي الفقيه يصبح هدفاً للتصفية. مشروع اللا دولة بعد احتلال العراق في العام 2003م، وإلغاء عمل الوزارات وتفكيك الأجهزة الأمنية والعسكرية لم يكن لدى إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن مشروع سياسي للتحول الديموقراطي والتنموي في العراق. فالحاكم الأميركي بول بريمر رغم سخريته من الزعامات الشيعية في كتابه (عام قضيته في العراق) قلّد الكثير من أتباع إيران الجهلة مناصب لم يحلموا بها، وأقصى ما حلم به بعضهم أن يكون موظفاً بسيطاً في وزارة أو بيع الملابس النسائية والمسابح في أسواق دمشق كما كان يعمل نوري المالكي، وليس رئيساً لوزراء العراق. الكاظمي لتفكيك النظام الطائفي وتحرير السيادة لهذا قادة الأحزاب الموالية لإيران لا يمتلكون مشروعاً لبناء العراق، بل لتدميره، لهذا فهم مستمرون في سرقة ثرواته لزيادة نفوذهم بالحكم، ولأنهم كذلك فهم يعتقدون أن استمرار وجودهم بالحكم متعلق بالبقاء أسرى لميليشيات القتل الإيرانية التي تضخمت وتحكمت في مرافق العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية في استكمال مشروع اللا دولة رغم ما يعيشه الشعب العراقي من انتكاسات قصمت ظهره. مجزرة المتظاهرين كشفت تغول الميليشيا.. و«أوامر القتل» من طهران حكومة إيرانية موازية أظهرت انتفاضة العراق خلافاً جوهرياً ما بين ميليشيات الحشد الموالية لإيران التي ترى وجوب تأسيس دولة دينية، وعموم الشعب العراقي الذي يريد تأسيس دولة مدنية حديثة سنامها القانون والدستور والمؤسسات. ويتضح من خلال هذا التعريف أن ميليشيات الحشد المؤمنة بولاية الفقيه لا تتفق مع النظام السياسي الراهن الذي يقوده مصطفى الكاظمي الذي يرى في سيطرة الميليشيات على هياكل الدولة عائقاً أمام التغييرات السياسية والاقتصادية للعراق وعلاقته بأشقائه العرب والدول العالمية المؤثرة. فمشروع الاحتلال الإيراني ومن خلال أذرعه المتمثلة بأحزاب الإسلام السياسي دمّر القواعد الأساسية للدولة العراقية، وقتل عشرات الألوف من العراقيين بتهم طائفية مقيتة. كما أن هذا المشروع هو من يملك القوة على الأرض، وكفته راجحة في مواجهة كل من يناهض هيمنته على العراق، فعدد الميليشيات العراقية المؤمنة به يتجاوز مئة ألف عنصر، تنفذ ما يطلب منها دون تردد كميليشيات النجباء وكتائب حزب الله وبدر والخراساني والعصائب وسيد الشهداء وجند الإمام وغيرها التي تقاتل منذ سنوات في سورية بإمرة إيران ودعم واستغلال مباشر لأموال العراق كرواتب تعطى لتلك الفصائل. فهذه الميليشيات ترتبط مركزياً بالحكومة العراقية، لكنها أيديولوجياً تمثل نفوذ إيران العسكري داخل العراق، ما سبب بشلل تام لقدرة الحكومة على نزع سلاحها واحتكاره بيد الدولة. فشكلت سيطرتها على موارد العراق وأجهزته عائقاً حقيقياً أمام تطبيق القانون وفرض سيادة الدولة، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ورفع سقف الخدمات المتردي. ولأن إيران تنظر إلى الشيعة العراقيين كرعايا للوليّ الفقيه، وتتعامل معهم على مستوى الوصاية والولاية، فالاقتصاد وتحسين معيشة المواطنين أمر ثانوي، في حين أن الثورة الإيرانية والتمدد والهيمنة تأتي في المرتبة الأولى، لهذا لم تلتفت إيران إلى معاناة الشعب العراقي، وردت انتفاضته برمتها إلى المؤامرة والأيادي الخارجية كعادتها عندما تُهدد مصالحها. إجازة الاغتيالات انتشر السلاح في العراق، وباتت الميليشيات الطائفية أقوى من الدولة، بل أصبحت هي السلطة ذاتها، تمارس إرهاباً ممنهجاً موجهاً إلى الشعب والأصوات المدنية المطالبة بالدولة المدنية، كما أخضعت العراق لرؤيتها المتطرفة والشعبوية، وإفراغ المدن من القوى المدنية تسهيلاً للانقضاض على السلطة تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت الطائفة، ولا سلطة أعلى من سلطة الميليشيات، فمارست الخطف والتنكيل والاغتيال، واختطفت قرار الدولة. فما كان ذلك أن يحدث لولا مباركة ولي الفقيه وإجازته لسفك الدم العراقي، عندما وصف انتفاضة الشعب العراقي بأعمال الشغب! قائلاً في 30 أكتوبر 2019م على موقعه الرسمي: «أوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشغب المدارة مِن قبل أميركا والكيان الصهيوني بأموال بعض الدول الرجعية». وخطب إمام الجمعة في طهران أحمد خاتمي في 11 أكتوبر 2019م: «إن أعداء الشعب الإيراني قد ركبوا على موجة الاحتجاجات في العراق». ويرى آية الله مصباح يزدي وهو أحد فلاسفة النظام ومُنظّريه المعاصرين، وجوب استعمال القوة للحفاظ على الحكومة الإسلامية حتى ولو كانت منبوذةً منذ أكثر مِن نصف الشعب فيقول: «الكمّ ليس معيارًا في الحفاظ على الحكومة، بل المعيار أنْ يقدّم عددٌ مِن أتباع الإمام عليه السلام، أو ولاية الفقيه المشروعة دعمهم للمحافظة على الحكومة، أحيانًا تكون نسبة هؤلاء 90 %، أو 50 %، أو 40 %. إنّه الولي الفقيه، مأمورٌ بالمحافظة على الحكومة الإسلامية، فما دام هناك مَن يمكن بواسطتهم المحافظة على الحكومة الإسلامية فإنّه ملزمٌ بالمحافظة عليها، لذا، فلا اعتبار بالكميّة، فيجب بقاء الحكومة حتى ولو لمْ يكن لها داعمون سوى 10 % من الشعب، بأيّ صورة ووسيلة كانت، فالأهداف الإسلامية إذا لم يتيسر تحقيقها إلا عن طريق العنف، عندئذ يُصبح هذا العنف ضرورة (محمد تقي مصباح اليزدي: صحيفة خرداد، 3 سبتمبر 1999م)، وليس ذلك فحسب بل يجب القتل خارج نطاق القانون، ودون الرجوع إلى القضاء (صادق حقيقت، توزيع السلطة في الفكر السياسي الشيعي، ص295). فإذا كان هذا هو فكر النخبة الدينية الحاكمة تجاه حرمة الدماء في الداخل الإيراني، فمن المؤكد أنْ يكون هو ذات الموقف وأشدّ تجاه دماء المنتفضين العراقيين ضد الملالي وأذنابهم. ثم دخل الحرس الثوري لاحتواء الانتفاضة الشعبية العراقية، والتقوا بمسؤولين عراقيين، وحذروا من استمرار التظاهرات، (رويترز، 17 أكتوبر 2019م). ووجّه الميليشيات الطائفية لبدء القنص والقتل المباشر، ومنع الإنترنت، وحظر التجوّل، فتحوّلت الساحات إلى حمامات دم وتعذيب جسديًا وَنفسيًا خارج نطاق القانون (منظمة العفو الدولية، 31 أكتوبر 2019م). لذا كانت هناك نية مبيتة لقتل المتظاهرين، وهو ما صرّح به حيدر العبادي ل (تلفزيون الشرقية، 22 أكتوبر 2019م). فملالي طهران يرون انتفاضة الشعب العراقي من قبيل الفوضى التي تقف وراءها أميركا والكيان الصهيوني وبعض الدول العربية الرجعية التي تريد نشر الفوضى في العالم، وهذا ما تبنته وزارة الخارجية الإيرانية في (26 أكتوبر2019م). كما ترى أن التظاهرات تستهدف إضعاف جبهة المقاومة في المنطقة، والتي هي أعظم إنجاز للجمهورية الإسلامية (أمد للإعلام، 4 نوفمبر 2019م). لذلك توظف طهران شعار المقاومة ضد خصومها، وتعد نفسها منصوبةٌ مِن الله وَفقًا لرؤية ولاية الفقيه الخمينية. هدف الاغتيالات لا أحد من المسؤولين مهما علا منصبه يجرؤ على فتح ملف الاغتيالات الثقيل بحق أبناء الشعب العراقي وكشف القتلة ومن يقف وراءهم، لأن فتحه يعني مواجهة مباشرة مع ميليشيات ولي الفقيه الراعية للدولة العميقة والمتحكمة بالشأن العراقي. والخوف من هذه الميليشيات المتشكلة من عراقيين كانوا في إيران التي أسست لهم منظمات للانتقام، سهّل لها عمليات الاغتيال والاختطاف، وبات ذلك منتشراً على مساحة التراب العراقي. وباتت هذه الميليشيات عبر نفوذها في الحكومة العراقية تمنع الجهات الأمنية من التحقيق في ملفات اختطاف واغتيال العلماء والناشطين والصحفيين، كما تمنعها أيضاً من تسريب قوائم الاغتيال، ملقية مسؤولية هذه العمليات على جهات مجهولة، ما جعل الساحة العراقية تشهد باستمرار اختطافات واغتيالات تستهدف علماء الدين الرافضين للمشروع الطائفي والكوادر العلمية المتخصصة من أطباء وأساتذة الجامعات دون رادع حكومي بالرغم من معرفة الفاعل. لذلك نجد أن هدف الاغتيالات الذي يعد جزءاً من خطة إيرانية بأذرع محلية، هو إبقاء العملية السياسية ضمن قواعد هشة تستفيد منها الميليشيات الصفوية التي أُسست على الاستبداد والفساد وتنفيذ الأجندات الإيرانية على المحاصصة الطائفية والعنصرية، والتي أحالت العراق إلى مصاف الدولة الفاشلة. وعلى الرغم من أن الاغتيالات ليست جديدة منذ اختطاف العراق من قبل الميليشيات الصفوية، لكنَّها تحمل رسالة ودلالة مزدوجة مفادها أن العراق بمدنه في قبضة وسطوة الميليشيات الإيرانية، كما تحمل رسالة للولايات المتحدة أنه ليس بمقدورها الاتفاق مع الحكومة العراقية على أي أمر قد يمس هيمنتها على العراق. فبعثوا رسائل الدم من خلال الاغتيالات المتواصلة والممنهجة من خلال اختيار أسماء الضحايا بعناية، مستهدفين إنهاء انتفاضة أكتوبر المتجذرة في نفوس الشعب العراقي والرامية إلى تغيير الدستور وشكل النظام السياسي. تخاذل أجهزة الأمن كشفت الاغتيالات لعشرات الناشطين أمام منازلهم، على أيدي مسلحين يستقلون دراجات نارية وغيرها، مدى ترهل أجهزة الأمن العراقية وتخاذلها، في ظل سهولة تحرك منفذي الجريمة في شوارع المدن، ثم تمكنهم من الانسحاب بعد تنفيذ جريمتهم بكل السهولة. ورغم مطالبة العراقيين بكبح جماح المسلحين والكشف عن مرتكبي عمليات الاغتيال والاختطاف، إلا أن ذلك لم يحدث، ودائماً ما كانت هذه الاغتيالات ترافقها عبارة «نفذ العملية مسلحون مجهولون». بينما الشعب العراقي يعرف من هي الجهة التي تقف وراء هذه العمليات، والتي حددها بميليشيات عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله والنجباء، وغيرها من ميليشيات الدم، والتي تسلمت قوائم تصفية الناشطين والمعارضين من القنصلية الإيرانية في البصرة. ولا شك أن عمليات اغتيال الناشطين هي استمرار لعملية تكميم الأفواه ومصادرة الرأي العام، من قبل الأحزاب المولية لإيران. الكاظمي والسلاح المتفلت أمام حكومة الكاظمي تحديات واسعة وصعبة رغم رغبتها بحصر السلاح في يد الدولة، ومن أهمها وجود أجندات خارجية طائفية تساهم في الإبقاء على السلاح بيد الميليشيات الموالية لها، ثم وجود انتشار كبير لهذه الميليشيات في مناطق العراق المختلفة، فضلاً عن تغلغلها داخل مفاصل الدولة ومؤسساتها، مع عدم قدرة الحكومة العراقية على ما يبدو إجراء تغييرات جذرية في المناصب الأمنية المهمة. رغم هذا إن هناك تفاؤلاً عراقياً وعربياً وعالمياً بأن الحكومة العراقية بقيادة مصطفى الكاظمي حازمة هذه المرة في التصدي للاغتيالات وانفلات السلاح وعودة المهجرين العراقيين إلى ديارهم وإبعاد الميليشيات المسلحة عن الحواضر، إذ أمر الكاظمي مجلس القضاء الأعلى إحداث هيئة تحقيق تختص بالاغتيالات بالتنسيق مع وزارة الداخلية. لذلك يعي الكاظمي أن الميليشيات الطائفية تزعجها الأصوات المطالبة بالإصلاح، وأن تنفيذ مطالب المتظاهرين أولها محاسبة القتلة، وحل مسألة السلاح المتفلت وضمان نزاهة الانتخابات في ظل قانون يضمن عدم بقاء الأحزاب التي أثبتت فشلها وإعادة النظر بأداء القيادات الأمنية ومحاسبتها، وعدم الاكتفاء بالإقالة، بل إحالتهم للتحقيق، هذا على أقل تقدير قد يخفف من احتقان الشارع العراقي. فسياسة الأحزاب التي تعتاش على الدعم الإيراني وتفرض أجندتها السياسية والاقتصادية والطائفية في العراق لا بد من إنهائها ليكون العراق دولة قانون واستقرار. ختاماً.. من اللافت لنظر المتابع للشأن العراقي هو الانتفاضة الشعبية الكبيرة في المناطق ذات الغالبية الشيعية ضد الهيمنة الإيرانية وأذرعها المحلية، فهذا الحراك يعد أول تمرد واسع ضد التبعية للولي الفقيه في منطقة عدتها إيران جزءاً مِن إمبراطوريتها. فكشف هذا الحراك حقيقة الحكومة الإيرانية وهشاشة البنية المذهبيةً التي لم تعد تغري المتظاهرين، فإيران ترفع شعار الثورة ثم تقمع انتفاضة العراقيين، كما ترفع شعار (هيهات منا الذلة) ثم تذيقهم القتل والاعتقال، فأدرك الشعب العراقي ازدواجية المعايير الإيرانية وتوظيفها للدين واستغلالها للمذهب. الشعب العراقي دفع ثمن ثورته ضد الفساد والهيمنة الإيرانية