الدولة العميقة تزامن تغلغل الميليشيات الطائفية المسلحة في حكم العراق مع تولي إبراهيم الجعفري لمنصب رئيس الحكومة، خلفاً لإياد علاوي عام 2004م، كثاني رئيس لحكومة عراقية بعد الاحتلال، وأحد أهم الشخصيات السياسية العراقية الموالية لإيران، والذي شغل عدة مناصب هامة. «الحشد الإيراني»انتقل من القتل الطائفي إلى وأد ثورة العراقيين.. وشهدت فترة حكمه تحوّل الميليشيات من مجموعات مسلحة إلى دولة عميقة تسيطر على قرار العراق تحت أنظار الأميركي، وتدير شؤونه حسب الرغبة والمصالح الخاصة لمموليها. وترسخت هيمنة الميليشيات الطائفية في يونيو 2014م، مع تولي نوري المالكي رئاسة الحكومة، والذي أسس هيئة الحشد الشعبي استجابة لفتوى صادرة عن السيستاني، وسمح لها الانخراط في الجيش وأجهزة الأمن، ومكّن قادتها من التحكم بالقطع العسكرية وإدارتها والاستفادة من تسليحها، حتى أصبحت «منظمة بدر» ذات الدعم الإيراني الركيزة الرئيسة للحشد الشعبي الذي يتلقى الأوامر من قائد فيلق القدسالإيراني قاسم سليماني، بدلاً من العمل ضمن إطار الجيش. الميليشيات العراقية ولدت في عهد الجعفري.. و المالكي حولها دولة موازية وحاول رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي خلف المالكي استعادة السيطرة على الحشد، فأصدر في مارس 2018م مرسوماً يأمر بإعادة هيكلته، لتورطه في انتهاكات حقوق الإنسان خصوصاً في المناطق السنية، والاستيلاء على مواردها، إلاّ أن الحشد المدعوم إيرانياً تجاهل القرار بالكامل، ما دفع العبادي لاحقاً إلى الخضوع للأوامر الإيرانية. ودفعت التداعيات السياسية والأمنية داخل العراق إلى تباين فقهي بين فصائل الحشد المختلفة، والتي انقسمت إلى تيارين متناقضين، الأول يمثل الميليشيات المرجعية في النجف، وتحديداً مرجعية السيستاني، أما الثاني فهو الولائي، والذي يُعدّ الأكبر، ويتبع مرجعياً للولي الفقيه في إيران. وكانت شرارة المشكلات قد بدأت بين هذه الميليشيات عقب موافقة حيدر العبادي على ضم كتائب العباس (المرجعية) إلى الجيش، وربطها تنظيمياً بوزارة الدفاع، لكن الولائيين لم يلقَ القرار القبول لديهم، ما تسبب في انهيار العلاقة بينهما. كما حاولت مرجعية النجف السيطرة على الحشد، من خلال دعوتها إلى استبدال القادة المرتبطين بإيران بقادة مستقلين تحت إشراف إدارة السيستاني، لكن رفض القادة الولائيون التخلي عن مواقعهم، وأصروا على إدامة سيطرة إيران على ميليشيات الحشد، بينما استشعر حشد المرجعية محاولات إبعاده عن صناعة القرار الإداري والعسكري داخل هيئة الحشد من قبل الميليشيات الولائية، إضافة إلى التمييز بين الميليشيات فيما يتعلق بالمخصصات المالية والدعم اللوجستي. ووصلت التوترات بينهما حدها الأقصى، عندما وُجهت اتهامات لقادة الحشد الولائي بتنفيذ حملة قمع وحشية استهدفت انتفاضة العراقيين في 2019م، حيث قُتل المئات وجُرح الآلاف. إمبراطورية الرعب إذا أردنا تناول نفوذ الميليشيات الطائفية في العراق، فلا بدّ من ضرورة الولوج داخل إمبراطوريتها الخاصة، لأن سطوة الميليشيات لم تقتصر فقط على التوغل داخل أجهزة الدولة، وإنما بإنشاء دولة مستقلة تمتلك منشآتها الأمنية، وسجونها الخاصة، وقواتها العسكرية التي تضاهي قوة الجيش العراقي وأجهزته الأمنية. وقد سيطر على المشهد العراقي ملف المختفين قسراً والمختطفين علناً جهاراً نهاراً خلال الأعوام الماضية وما زال مستمراً، لا سيما بعد تقارير منظمات دولية وشهادات ناشطين عراقيين أكدت اعتقالات مذهبية وعنصرية طالت كل من يخالف سياسة الميليشيات، والزج بهم في سجون سرية أو مقابر جماعية. ووثقت مفوضية حقوق الإنسان العراقية، وكذلك الأممية، اختفاء الناشطين، واغتيال المعارضين، وارتكاب المجازر بحق أهل السنة، وادعاء نسبتها للإرهاب، إضافة إلى عدم السماح للسكان السنة بالعودة إلى ديارهم بعد القضاء على داعش، وعدم السماح للأجهزة الأمنية بالانتشار في المحافظات السنية، علاوة على التغيير الديموغرافي، وإجبار الناس ما بين خيارين التشيّع أو التهجير، كل ذلك تم في ظل التواجد العسكري الأميركي والدولي. فالمواطن العراقي لا يحتاج شهادة من منظمة العفو الدولية أو أي منظمة أخرى على فظاعة جرائم هذه الميليشيات الإيرانية، لكن المنظمة أوضحت على لسان دونا تيلا روفيرا، كبيرة مستشاري شؤون الأزمات في منظمة العفو الدولية أنه "من خلال منح الحكومة العراقية مباركتها للميليشيات التي ترتكب بشكل منتظم انتهاكات مروعة، يظهر أن الحكومة العراقية تُجيز ارتكاب جرائم الحرب، وتؤجج دوامة العنف الطائفي الخطرة التي تعمل على تمزيق أوصال البلاد". كما وصف مقتدى الصدر ميليشيا عصائب أهل الحق، المنشقة عن جيش المهدي التابع للصدر نفسه، بأنها "تضم قتلة بلا دين"، وتتعمد استفزاز السنة في مدنهم وقراهم، سواء بالاعتقال أو القتل أو سرقة المنازل والمتاجر أو تنظيم استعراضات مسلحة طائفية. ومع تقدم السياسية الطائفية باتت هذه الميليشيات فوق القوانين الدولية والأعراف، وانتقلت نشاطاتها من السياسة لتشمل كل مناحي الحياة، وأصبحت ممارساتها مترافقة مع حالات الابتزاز والترهيب والاعتقال والقتل من دون وجه حق، فمنحها ذلك صفة القداسة، وألبسها ثوب العصمة، ولا يمكن توصيف زعمائها بأنهم قاتلون أو سارقون أو ظالمون... وعندما اعتقل جهاز مكافحة الإرهاب 13 عنصراً من كتائب حزب الله العراقي الإرهابي في يونيو2020م، مثّلت تلك العملية اختباراً لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي وعد باستعادة سلطة الدولة من قبضة الميليشيات، والتي حظيت بتأييد شعبي واسع، لكن الأمور لم تسر في صالح الحكومة، حيث سقطت عدة أحياء بغدادية بيد تلك الميليشيا، لذلك جرى إطلاق سراح العناصر مباشرة لأنهم معصومون، وباتت الأجهزة الأمنية عصابة تدير مصالحهم، وتتستر على أفعالهم بالعدل الطائفي والميزان المذهبي. وبعد إطلاق سراحهم انتشرت صورهم وهم يدوسون على صور رئيس الحكومة، ما مثّل انتكاسة حقيقية لمسعى الكاظمي بفرض سيادة الدولة والقانون، خصوصاً بعد تصريحات قائد ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي محذراً الكاظمي من مواجهة ميليشيا الحشد، قائلاً إن : "حكومة الكاظمي مؤقتة هدفها إجراء انتخابات نيابية مبكرة والعبور بالبلاد أمنياً وصحياً لا أكثر". لقد حصنت هذه الميليشيات نفسها على مدى 17 عاماً، بمساعدة الحكومات العراقية السابقة، تحسباً لأي ظرف قد يكشف صفاتهم الحقيقية وطبيعتهم الإجرامية كقتلة وفاسدين. ولا أدلّ على ذلك أيضاً من المشاهد المأساوية لشباب العراق الذين خرجوا منددين بجرائم الميليشيات في شوارع وساحات المدن والأرياف، حيث واجهتهم الميليشيات الطائفية المعصومة بالذخيرة الحية، التي حطّمت جماجم الأبرياء، علاوة على خطف الآلاف، ومع ذلك لم نجد إشارة رسمية واحدة إلى الجهة التي قامت بكل هذه الأفعال الإجرامية، على الرغم من أن الميليشيات المعصومة معروفة، والخطف تم من قبل مسلحين بسيارات حكومية. بينما جاء التبرير الحكومي أن كلّ ما حصل هو تصرفات فردية لا صلة لها بالأجهزة الحكومية، وبذلك جرى التعتيم على المجرمين، مع العلم أن الحقائق ليست سريعة فقدان الصلاحية، وحلم إحياء الهوية الوطنية العراقية ما زال يكبر في معالم ساحات بغداد والموصل والبصرة والناصرية، بعيداً عن أمراض الطائفية. المنافذ رئة الميليشيات لا شك أن معركة الحكومة العراقية والميليشيات الطائفية المسلحة على المنافذ الحدودية ستكون أشرس بكثير من معركة حصر السلاح بيد الدولة، على اعتبار أن المعركة الأخيرة مرئية قد تخضع للتفاوض أو القوة، بينما معركة المنافذ الحدودية معركة وجود بامتياز للميليشيات الموالية لإيران، كونها متنفساً اقتصادياً مهماً ورئيساً في انتعاش إيران في ظل العقوبات الاقتصادية الصارمة المفروضة عليها من قبل الولاياتالمتحدة. لذلك ملف المعابر سيشهد صراعاً كبيراً بين الحكومة العراقية والميليشيات الموالية لإيران للسيطرة على عوائد مالية ضخمة قُدرت خلال شهري مايو ويونيو 2020م ب 150 مليار دينار عراقي كقيمة جمركية وضريبية، جرى استيفاؤها من 22 منفذاً برياً وبحرياً تهيمن الميليشيات الطائفية الموالية لإيران عليها. وأكدت تقارير عراقية أن تلك المنافذ رئة اقتصادية إيرانية بامتياز، ومصدر تمويل مهم للميليشيات في الوقت نفسه، خصوصاً أن هذه الميليشيات تسمح بتمرير البضائع الإيرانية الفاسدة وغير المطابقة للمواصفات، وتهريب المخدرات والأسلحة والنفط والعملة الصعبة، إضافة إلى فرض الإتاوات عليها. لهذا افتتح رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في 11 يوليو 2020م منفذ مندلي الحدودي في محافظة ديالى للتبادل التجاري بين العراقوإيران، مهدداً ب "إطلاق النار على كل من يتجاوز على الحرم الجمركي"، ومعلناً إعادة النظام والقانون للمنافذ الحدودية، ومتوعداً بفتح ملف فساد المعابر الحدودية، وهيمنة مَن وصفهم ب "العصابات" عليها، إذ تفقد الدولة نحو ستة مليارات دولار سنوياً لصالح الميليشيات الطائفية. وأعلنت وزارة الدفاع العراقية في 15 يوليو 2020م السيطرة على معبر الشلامجة مع إيران، ومعبر صفوان مع الكويت، وتكليف قيادة القوة البحرية بالسيطرة الكاملة على المنافذ البحرية في ميناء أم قصر في البصرة. لذلك السيطرة على هذه المنافذ تُعدّ اختباراً صعباً للحكومة العراقية، وسيؤدي الفشل فيه إلى آثار سلبية ضخمة على الحكومة العراقية. أما المعابر الداخلية فأصبح دخول أي مواطن عراقي سنّي إلى بغداد يحتاج كفيلاً ضامناً من سكانها، إضافة إلى دفع مبلغ مالي لصالح الميليشيات الولائية التي تنصب حواجزها بين المحافظات، وترفع صور الخميني وخامنئي وعلم إيران على دباباتها ومدرعاتها، وتشكّل الإتاوات أحد مصادر تمويلها ودخلها. القيادة والتحكم اعتادت الميليشيات الولائية تخطي صلاحياتها وتنفيذ العمليات بمعزل عن الحكومة العراقية، حيث تورطت في أكتوبر 2019م، في قتل الكثير من المتظاهرين العراقيين، كما شنت هجمات بالطائرات المسيرة ضد دول مجاورة، واستهدفت بعثات أجنبية داخل العراق، نتج عنها شن ضربة أميركية ضدها أودت بحياة قائد فيلق القدس قاسم سليماني وقائد ميليشيا الحشد أبو مهدي المهندس. لهذا نجد أن أكبر التحديات التي تطرحها الميليشيات الولائية هي القيادة والتحكم، حيث عارضت بشدة تعيين مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء، واتهمته بالتواطؤ في مصرع قاسم سليماني والمهندس. وتُبدي هذه الميليشيات تخوفاً واضحاً من مساعي الكاظمي لتجريدها من سلطتها.. بينما يعتقد الكاظمي أن الميليشيات الولائية تمثل أبرز العقبات أمام تنفيذ برنامجه، وتحديداً الجانب الأمني، بعدما باتت تشكل دولة عميقة داخل الدولة العراقية، وتمتلك أجنحة سياسية كتحالف "الفتح" الذي يمثل الغطاء السياسي لها. لهذا نرى أن محاولات مصطفى الكاظمي لاحتواء هذه الميليشيات لن تمرّ دون مصاعب جمّة، أبرزها التمرد على حكومته، والقصف بين الفينة والأخرى للسفارة الأميركية، بغية وضع حكومة الكاظمي في حرج دولي، وإظهار ضعفها في حصر السلاح بيد الحكومة. فتظهر هذه الميليشيات هوية مزدوجة، فهي مقاومة ومعادية للولايات المتحدة، ومن جهة أخرى مسجلة في المؤسسة العسكرية العراقية، لهذا يجعل من الخطر عليها شن هجمات علنية ضد أهداف أميركية أو التصريح بها، رغم تبنيها أهدافاً معينة تتماشى مع مصالح طهران. إطالة عمر الفساد لقد أدمن قادة الأحزاب والميليشيات الموالون لإيران مدة سبعة عشر عاماً على إيران لحل مشكلاتهم وتوجيههم وتسليحهم، وعند رحيل قاسم سليماني وانشغال إيران بمشكلاتها الداخلية والخارجية بانت عورتهم، وباتوا عاجزين عن لم شملهم وتوحيد كلمتهم، ولم يفكروا حتى بالقفز من السفينة المتهالكة، بل باتوا ينتظرون الغرق، وجر العراق وشعبه معهم. لذلك لاحت بوادر مخاض كبير في ثياب ملالي طهران، لإطالة عمر الفساد السياسي والاقتصادي الذي أفرغ الشارع من الأمان، والحقل من البيدر، والوطن من السيادة، من خلال سيناريوهات رسمتها مع ميليشياتها للقضاء على انتفاضة الشعب العراقي، واستمرار الوضع على ما هو عليه. ولم تتوانَ عن استخدام القوة وتوجيه قذائف قنّاصيها نحو صدور المتظاهرين المطالبين بحقوقهم المشروعة، للقضاء على انتفاضتهم. كما أمرت ميليشياتها بنشر الأخبار الكاذبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات تبشر بانقلاب وشيك في العراق، وعودة حزب البعث إلى السلطة بدعم أميركي وبريطاني وخليجي، لتحفيز ميليشياتها لحدث قريب، وإعادة الانتشار حول بغداد وإحكام السيطرة عليها بحجة ردع ومنع الانقلاب. غير أن الشعب العراقي يعرف جيداً أن رامي القناصة غير غامض الهوية، وإنما هو قفاز للولي الفقيه الذي تعتمد الأحزاب والمليشيات الطائفية عليه في تأمين سلطها على العراق. ختاماً.. يُعدّ احتواء الميليشيات الطائفية وتحجيمها عملية معقدة تحتاج إلى إرادة عراقية حقيقية ومساعدة دولية قبل قطف ثمار النجاح، لأن هذه الميليشيات والأطراف السياسية المرتبطة بها تمتلك النفوذ الأقوى، وتتحالف مع إيران المسيطرة على صنع القرار. ورغم جدية رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في حصر السلاح بيد الدولة، وإبعاد الميليشيات عن السلطة، إلاّ أنه يحتاج إلى دعم سياسي داخلي كبير قد لا يتوافر في برلمان يحتوي على غالبية شعبية موالية لطهران.