سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مهر الأحلام "2".. ماء الحياة كنت أعتقد أنه لا يوجد عالم خارج القرية وعشت على هذا التصور أياما بريئة لم أكن أفكر كثيرا؛ فكلما حولي قرية متلونة الأطياف المناخية تأسرك حينا بجمال طقسها وتقسو حينا
قال أحمد: قالت لي جدتي يوما -وقد كنت أحسب أن العالم محصور في عقلها كما كنت أعتقد أن مساحة العالم المكانية لا تتجاوز (بئر كداد) جنوبا كما يحدها ماء (الغيل) من الشمال.. كنت في طفولتي أرى (الورّاد) المختلطين نساء ورجالا وهم يركبون الحمير باتجاه أحد الماءين ليأتوا لنا بماء الحياة، وربما أركبوني حينما ألح بالبكاء رغبة في تذوق طعم الركوب لتجعلني إحداهن خلفها على ظهر تلك (الدابة)، ولم أكن أعلم أنني سأمر يوما بذلك الطريق الوعر الذي تقطعه الدابة باتجاه (وادي الغيل) محملة بي والمرأة وبزفتين تطلان ذات اليمين وذات الشمال..ولقد تعمدت أن أمر يوما مع ذلك الطريق وأنا أعجب ولا زلت: كيف رحمني الله فلم أقع، ويبدو أني كنت متمسكا بالمرأة أو أن الواردة كانت أمينة، بل إنها إرادة الله تحميني لأكتب يوما بعد ما يزيد على ثلاثة عقود عن تلك التجربة المدهشة حقا! وكم هي تلك الحكايات التي ارتبطت بهذا الماء بصورة تجعلها أحيانا ترتبط بشيء يشبه التخاريف هدفها الإضحاك وملء المسامرات بالهزل.. قالت جدتي وهي تنقل عن أحدهم أنه ذات يوم أراد أن يسبق الوراد ليصل للنهل قبل أن يتكدر. قبل مطلع الفجر الكاذب وعلى ضوئه أخذ نفسه في خلسة من النوام واتجه صوب (ماء وادي الغيل) يمني نفسه بماء نمير لا يزاحمه عليه أحد. وصل في غلس الصبح حين ربط دابته بشجرة (السيالة) المجاورة ل(ركية) الماء وأدلى دلوه وكانت المفاجأة أن الدلو لا يصل إلى الماء حاول مرارا وبدأ يتحسس وإذ به يحس بحركة داخل الماء لم تكن تلك كما تقول الجدة -والعهدة عليها- إلا (عفو) صغير يبدو أنه أراد أن يشرب فسقط في الماء ...وتروي أنه أخرجه من الركية يقطر ماء، ولأنه يريد أن يملأ زفافه قبل أن يتوافر الوراد فقد ملأها واتجه سريعا صوب القرية عبر مضيق (رهوة القحايف)، كان أهله يشعرون أن ثمة رائحة غير طبيعية في الماء... ولكنه الماء الذي يعز عليهم أن يريقوه...!! كنت أعتقد أنه لا يوجد عالم خارج القرية وعشت على هذا التصور أياما بريئة لم أكن أفكر كثيرا؛ فكلما حولي قرية متلونة الأطياف المناخية تأسرك حينا بجمال طقسها وتقسو حينا، لكنني كنت في الحالتين أستمتع دون تفكير وأحس أنه لا حياة غير تلك، فرضينا.. نستمتع بمعزوفاتها كل صباح، وفي الليل يملؤون رؤوسنا بقصص أبي زيد قبل أن ننام، بل يمثلون أنهم ينفذونها تطبيقا على أرض القرية، ولا زلت أتذكر تلك الصخرة العظيمة في الوادي التي كانوا يقولون لنا إنها صخرته التي حملها بكف وشرب اللبن بالكف الأخرى، وكان يدافع الكلاب الشرهة بينهما! عبدالرحمن المحسني - شاعر وناقد