عندما كنت طفلاً كانت جدتي تروي لنا من القصص والأشعار ما ذهب النسيان بأكثرها ولما تزل منها ملامح في الذاكرة تذكيها روايات في الكتب والأساطير الشعبية، فقد رسمت لنا بعد ذلك كتب الكيلاني وما حاكاها من كتب تحسين القراءة إلى ماهو أعمق إبحاراً في عالم الإبداع القصصي وما سهل التسلل إليه من قصص ألف ليلة و ليلة، وما تلا ذلك من توجيه المعلمين إليه للارتقاء بالذائقة الابداعية. كانت قصص الجدات تهدف إلى غرس قيم تربوية في الأجيال وفق المستحب منها، وكما هو معروف تبلى القيم وتتجدد ويحل بديل منها، وتختلف سرعة البلى والإحلال من مجتمع لآخر ولذا ليس بدعاً أن تروي لنا جدتي قصة غريسة على النحو التالي: كان فيما بين قرية الحمراء و قرية أم ذيان قرى كثيرة دمرها الظلم والطغيان فقدان الرحمة بالعابرين والفقراء و كان أهل هذه القرى أغنياء بما يملكون من نخيل وتجارة، ولهم مساكن ذات أدوار ، وتخترقها جداول الينابيع والعيون ، ويتمتع نساؤهم برفاهية وعلم، ويستخدمن المياه الجارية من داخل بيوتهن للاستحمام بعيداً عن أعين الرقباء، وحدث أن لقي احد الفتيان شعرة بطول الإنسان فأخذها إعجاباً بصاحبة الشعرة، ورغبة في الوصول إليها، وكل بنات القرية التي ينساب منها الماء يعتنين بشعرهن و يبالغن في إطالته مباهاة بجمالهن، فذهب إلى ساحر يدفع الفتاة نفسها للبحث عنه، فما شعر الفتى إلا بعجوز تدعوه لزيارتها في منزلها وهناك التقى بالفتاة ونشأت بينهما علاقة حب متينة، تطورت إلى ارتدائه ملابس الفتيات والذهاب إلى فتاته لمسامرتها في جناحها الخاص ولم يتقدم للزواج منها لخلاف بين القبيلتين انتهى منذ زمن ولكن أهل القرية لا يزوجون بناتهم لغير أبنائهم ، ولذا حكم الهوى ألا يتزوجا رغم إلحاح أهل كل منهما على الزواج من أبناء عمومة كل منهما، و ظلا على هذه الحال من المسامرة ثمانية أعوام دون أن يذهبا إلى متعة جسدية حياء و تجنباً للذنوب، كان الفتى ينصرف كل ليلة مبكراً إلا أن النوم غلبهما ذات ليلة، فإذا بأخ الفتاة يدخل عليهما نائمين فيكتشف أمر الصديقة الموهومة فيسبقه سيفه الى عنق الفتى زيدان، ثم هوى بالسيف إلى أخته فصدته بيدها و طلبت من أخيها إرجاء قتلها حتى تؤدي صلاة الجمعة فأمهلها ثم قتلها وأخفى قبريهما. وكما ذكرت جدتي أرادت الفتاة أن تنتقم من أخيها بل أهلها، وكانت تحسن القراءة فكتبت قصيدة ترثي زيدان و توصي بالانتقام كتبتها على حجر أمرت عبيدها بنقله إلى مورد الحيين أهلها وأهل زيدان، وكانت بئراً عميقة يستخدمها الفريقان لماء الشرب لعذوبة مائها نسبة إلى ماء العيون الذي لاتضمن نظافته، وليس عذبا. لم يعرف الحيان أين ذهب زيدان، أما الفتاة فقد عرف الناس موتها لمرضها. أشيع في القرية رؤية زيدان في أحد الأودية المجاورة(ينبع) لواديهم( وادي الصفراء) و أنه ربما ركب البحر. ولما عليه الفريقان من وفاق لم يذهب الشك إلى وقوع جريمة، إلا أنه وبعد سنوات قليلة و بينما كان الفريقان على البئر يسقون مر بهم درويش وطلب أن يسقوه فامتنعوا حتى تروى دوابهم، فأخذ الحجر ليجلس عليه فانكشف الوجه الآخر له فقرأ الدرويش القصيدة ، وعرف من أبياتها حدثا مجهولاً فقال لهم: أسقوني قبل أن يقتل بعضكم بعضاً. قالوا: أنت لا تستطيع إثارة فيما بيننا، عندها قرأ القصيدة فترك القوم الماء والدرويش و نشبت المعركة بين الفريقين ففنوا جميعاً بعد أن أحرق بعضهم مساكن وأملاك الآخرين وجفت الينابيع نتيجة الظلم والطغيان والبطر الذي كانت عليه القرية ومن أبيات القصيدة كما أوردها منديل آل فهيد في الجزء الثاني من كتابه « من آدابنا الشعبية»: قالت غريسة زينة القول والبنا فجاني زماني و المقدر دهانيه تهاويت مع زيد وطابت ليلنا ثمان سنين في طرابه و امانيه هواني وهاويته على الانس الهوى وقطفنا ثمر ما لاق والنفس فانية غشاه الكرى لما مضى الليل وانتهى وبتنا منيسين والآجال دانية ياليت زيد طاعني يوم أقول له إسر وكل الناس بالنوم هانية ولا طاعني و الامر مافيه حيلة غشى زيد حلو النوم انا غشانيه ولا انتبهت إلا ان زيد ضحية نعيته ولو هو حي عندي نعانيه إلى قولها: عفا الله عن زيد عشيري ذنوبه ولو هو عصاني يوم اقول اسر ثانيه محا الله عن زيد عشيري ذنوبه ولو كان في حوض المنية رمانيه و قولها: أوصيك يا نقر الصفا لا تغرني اذا جوا عريب واردين هدانيه ويا مدوّر زيد ترى زيد عندنا ذبيح العمر في اسباب كل جانيه ترى عامر توخذ به البل والغنم و زيد لا يكفيه إلا ثمانية أبوي واخوالي وعمي و عزوتي ذبح الشفايا في عشيري هنانيه ويذكر المنديل أن مكان وقوع القصة قرب الحدود السعودية العراقية، ولم يذكر ماحدث بعد مقتل العاشقين، كما ذكرت جدتي، والاختلاف في الرواية قد يخضع لطبيعة المكان وهدف الرواية، وجدتي قالت زيدان وزيد وزيدان رمزان يستخدمان في مثل هذه الأحوال ، وجدتي ربطت القصة بوادي الصفراء لهلاك كثير من القرى التي كانت عامرة بالمياه والسكان نتيجة الجفاف الذي شاهدنا طرفا منه، و كانت تحذرنا من الظلم والتعدي على الاخرين ، وكان هناك حجر عليه نقشت نجمة كانوا يدعونه حجر غريسة ويحذرون من لمسه، وظل طويلاً حتى فقد أخيراً بعثور من يهتم بالآثار عليه. و بالقرب من مكان الحجر شعب يدعونه» تلَيْعَة الجمالة» يزعمون أن العذاب الذي نزل بالقرية شمل هؤلاء الجمّالة. ولقد قرأت في مجلة شعبية عن هذه الحادثة منسوبة إلى قرية في العراق. ومثل هذه القصة وما يصاحبها من أشعار تتعرض للحذف والإضافة والإبدال، ولا تفقد مضمونها ومحتواها وما تهدف إليه من دلالات ، والنقل الشفهي عرضة لذلك. والمعالم الباقية من القرى الزايلة تظل شاهداً على أنماط الحياة التي كانت سائدة هناك. وعلى أية حال يظل الشعر أبقى النصوص وأحفظها للأحوال الاجتماعية الغائبة.