لقد استأثر أدب الرحلات باهتمام الكثيرين وكان موضع اهتمام الأدباء ومحل عناية المؤرخين وعني به أعلام عبر مراحل التاريخ وكانت الرحلات في الزمن القديم تعتبر مجازفة بالحياة ومغامرة بالمال والوقت والراحة سواء كانت للحج أو لطلب علم أو تجارة أو سياحة وكان المسافر يجعل نصب عينيه حين عزمه على السفر عدم العودة إلى أهله فكان يكتب وصيته ويقضي ديونه ويخرج كمن يريد أن يخوض معركة أو يركب متن البحر إبان هياجه واضطرابه هذا إلى جانب ما يتكبده من عنت وإرهاق في جوب الفيافي والقفار والتعرض للفح الهجير وبرد الزمهرير والسير البطيء الممض والغذاء الخشن الجاف والماء العكر المالح والمواصلات العقيمة القليلة الجدوى كل هذا وأمثاله يقف في طريق الرحالة سداً منيعاً ومع ذلك فقد امتطى الكثيرون متن هذا الخطر وخاصة إلى الحج حيث إنه أمل كان يداعب الكثيرين. فقد كانوا يمتطون متن السفن ويضربون أباط الإبل في مجاهل الأرض وتضمنت رحلاتهم وصفاً للبلدان التي زاروها والمعالم التي شاهدوها والأهوال التي صادفوها وتحدثوا عن الناس وعاداتهم وتقاليدهم في مختلف الأصقاع وما زالت كتبهم التي دونوا رحلاتهم فيها شكلت في حينها ولا تزال تشكل حتى اليوم خير خدمة للتاريخ والجغرافيا معاً. ولقد اشتهر عدد من الرحالة المسلمين بتدوين رحلاتهم حيث حفلت رحلاتهم بالمباحث العلمية والنواحي التاريخية والأمور الفكرية وبصنوف الآداب وفنون المعارف ووصف المواقع والمواقف والمشاهد مما يستحق التسجيل والذكر مع إبراز ما شاهد الرحالة من مرئيات بأدق العبارات وأحسن الكلمات وتضمن رحلات الكثيرين للحج أوصافاً دقيقة للبلدان التي مروا بها والمعالم التي شاهدوها وتمثل رحلة الحج حجر الزاوية في أدب الرحلات فهي الباعث والمحور الذي يطوف الحاج به في قدومه. ونستعرض رحلة الحج للشيخ حمد الجاسر، والشيخ حمد أحد أعلام الجزيرة العربية ومن قمم المشتغلين بالتراث الإسلامي وقدم خدمات جليلة وأخلص للعلم والمعرفة وعرف بحبه للغة العربية ووقف نفسه على دراستها والاهتمام بالتاريخ والتراث وكانت له جولات في مكتبات العالم للبحث عن نفائس التراث وتحقيقه وطباعته وبحثه ونشره من خزائن الكتب المتفرقة، ألَّف وحقق ورحل وكتب في ميادين تاريخية وجغرافية ولغوية فاجتمع له العلم والأدب والرحلات المتعددة للبحث عن المعرفة والتراث وأصدر في الرياض سنة 1372ه مجلة اليمامة الشهرية كما أنشأ مطابع الرياض سنة 1374ه وهي أول مطبعة أنشئت في الرياض وفي عام 1385ه رأس تحرير جريدة الرياض ثم أنشأ دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر وأصدر مجلة العرب الشهرية سنة 1386ه وهي تعنى بتاريخ العرب وآدابهم وتراثهم الفكري وللشيخ حمد رحلات كثيرة وهي متنوعة الأهداف بقصد الاطلاع على المخطوطات وتحقيق مواضع جغرافية وتاريخية وقطع المفاوز والقفار في ذلك ونستعرض رحلته إلى الحج التي قام بها سنة 1348ه وهي أمضى سبعة عشر يوماً من آخر شهر ذي القعدة وأول شهر ذي الحجة فيما بين قرية البرود مسقط رأسه بإقليم السر في نجد ومكةالمكرمة ويقص رحلته قائلاً: وكان الاتجاه إلى مكة للحج، لطلب العلم، وللبحث عن الرزق وللخروج مما اعتراني من كآبة وضيق. ويقول: سار الرفقة الأربعة وهم على خير ما يتصف به الرفاق في السفر من الوئام، واتفاق الأهداف، والتعاون في مختلف أوجه السعي، إلا أن من بينهم من لم يفكر في أمر اتفقوا عليه، سيعود كل واحد منهم بعد أدائه فريضة حجه، متزوداً بما سيتحف به أهله وأقاربه وأصدقاءه مما اعتاد العائد من الحج إحضاره معه، فيستقبل بالبشر والترحاب ويقدم على أهل وموطئ سهل، أما صاحبنا فما الذي يذكر هنا؟ ما أرحم هذه الفيافي الرحبة، والفجاج المترامية. الأطراف في هذه الصحراء الفسيحة، حيث يتنسم المرء أرج الانطلاق والانعتاق مما كبَّل فؤاده، وأوهى قواه، فعجز عن النهوض به من أعباء الحياة وهمومها داخل تلك الجدران، أو في أسواقها الضيقة أو بين أهلها البؤساء. إن للحياة أثناء السفر طعماً ولذة قد لا يحس بها إلا من حُرمهما من أهل المدن والقرى، ممن لم تتيسر له وسائل العيش الرخي، ناعم الحال، هادئ البال. وقد أمضى في رحلته إلى الحج سبعة عشر يوماً أمضاها من آخر شهر ذي القعدة وأول شهر ذي الحجة، فيما بين قرية (البرود) ومدينة (أم القرى) مكةالمكرمة من عام 1348ه وما كانت المسافة بين المكانين يتطلب قطعها ذلك الزمن كله، ولكن كان سير الرفقة وفق خطة (إن لراحلتك عليك حقاً). وما منهم إلا من كان برُّه براحلته مقدماً على اهتمامه بمتطلبات نفسه، ومن كان يرى في أيام سفره ذلك ما يراه المتنزه، المستمتع بمباهج ما يشاهده في أجمل ما يقصده من البقاع، وما أبهى ما مررنا به منها، وهي مكسوة بالخضرة النضرة، تزهو بمختلف ألوان البقول المزهرة. ولا أرى غضاضة في القول بأن السفر وقد قُدر عليهم زاد سفرهم ومنحتهم تلك الأرضُ الخصبة المربعة وجادت لهم بما فتق الخواطر، ونتق البطون، منهم ومن مطاياهم، من طيب نبتها، وحلو جناها، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ولقد كان الجوُ لا حرٌ ولا قرٌ، ولهذا لم تدع الحاجة إلى نصب (الشراع) طيلة أيام الرحلة إلا في ليالي مِنى والأبطح. وقد كان الشيخ في هذه الرحلة أصغر القوم سناً، وأرقهم حالاً، ومن لازم هذين الأمرين - عادة - أنه من يتصف بهما أو بأحدهما يكون أوفر حظاً من غيره في القيام بمتطلبات الرفقة من أعمال السفر، كإحضار الحطب، وعمل القهوة، وطبخ الطعام، وملاحظة الرواحل في المرعى، وإحضارها وقت السفر مع التعاون غالباً في جميع ذلك. ويتحدث الشيخ حمد عن رحلته قائلاً: ومع أني ضعيف البنية، لم أعتد كثيراً القيام بتلك إلا أن مشاركتي بما أستطيع أداءه منها يُحدث من النشاط والقوة ما يفعم نفسي ارتياحاً وسروراً، بالإضافة إلى أن رفقته لا يضنون عليه بما يستحقه من تقدير ورعاية، فقد يخصونه بشيء من أطايب الأكل، وقد يؤثرونه بالفراش الوثير، وبالجلوس في الظل حين يتقلص فلا يتسع لهم جميعاً، وقد كان إمامهم في الصلوات، ومعلمُهم لأحكام المناسك، ومرشدهم لمعرفة ما يحتاجون معرفته من أمور دينهم، وكثيراً ما كان يُسمعهم من محفوظاته من الشعر مترنماً به - على عادة قراء ذلك العصر في نجد - فيطربون، ويستزيدون منه، وتأثرهم بالتغني به أقوى من إدراكهم لمعانيه، فهو لا يعدو قصائد الوعظ من شعر يحيى بن يوسف ومثاله: أنا العبد الذي كسب الذنوبا وغرته الأماني أن يتوبا أو نحو: ليس الغريب غريبَ الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن أو قصيدة ابن القيم: فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيّم ويقول الشيخ حمد: ومن المعروف أن الأصل في قراءة الأشعار التغني بها لإطراب السامع بالصوت المنسجم مع وزن الشعر، على حد قول القائل: تغنّ في كل شعر أنت قائله إن الغناء لهذا الفن مضمار ويمضي في وصف رحلته قائلاً: ومع أنه لم يسبق لواحد من الإخوة سلوك طريق الحج ليكون ذا معرفة به للاستدلال على معالمه وورود مناهله، إلا أنهم لم تعترضهم أية مشقة أثناء سيرهم، ولم ينحرفوا عن الوجهة التي كانوا يقصدون، فكانوا حين يصدرون عن أحد المناهل المعروفة يستوضحون عن الطريق، ممن يلتقون به من الناس، وقلّ أن يتجاوز وقت سيرهم بياض النهار وأطراف الليل، ثم ذكر بعد ذلك أشهر ما مروا به من المناهل المعروفة «الدفينة» وقبة. ومران، وعشيرة، والسيل الكبير (قرن المنازل) ومنه كان إحرامهم، وفيه التقوا بعدد كثير من الحجاج الذين لم ينقطع الاجتماع ببعضهم أثناء الطريق، حتى كان بلوغ مكةالمكرمة في مساء اليوم السابق من شهر ذي الحجة سنة 1348ه وكان النزل في جانب الأبطح، المقابل لقصر السقاف - القصر الذي كان ينزله الملك وحاشيته - إذ الحجاج القادمون من نجد في ذلك العهد لم يعتادوا النزول في بيوت البلدة، وإنما كانوا ينصبون خيامهم ويقيمون أخبيتهم في بطحائها الممتدة من قرب (قصر الجعفرية) شرق ريع الحُجُون إلى مفترق طريق مِنى من طريق الشرائع، بتلك البطحاء من الجهتين الشمالية والجنوبية، وخلف القصر الملكي، وأمامه، حيث لم ينتشر العمران في حارة (المعابدة) بعْدُ. ويقول في وصف أعمال الإحرام: كان الواحد منا - منذ أن تجردنا من ملابسنا بارتداء ملابس الإحرام بعد الغسل وأداء ركعتي السنة وترديد تلبية التمتع بالعمرة إلى الحج - يتصور في كل شيء يُشاهده من الجمادات أثناء السير من الجبال أو الصخور أو الأشجار أطيافاً ذات إحساس يمر بها، بحيث توشك أن تدنو منه فتلتزمه فيمتلئ قلبه من هذه الرؤى الغريبة، وما ذاك إلا من تأثير ما شَغلنا به أفكارنا من أننا بأداء فريضة الحج ينبغي أن نتأثر بذلك العمل، فنخرج من أوضارنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، فعشنا من جراء هذا التفكير تحت طغيان عاطفة، ملكت علينا مشاعرنا، تستمد مما اشتغلنا به منذ الانتهاء من أعمال الإحرام من التلبية والدعاء، والتضرع والاستغفار، بصورة أثرت في أنفس بعضنا إلى درجة البكاء، ومع أننا اعتدنا تناول طعام العشاء حين يستقر بنا المنزل، ونهيئ لرواحلنا ما هي بحاجة إليه من علف ومناخ، إلا أننا وقد انتهينا من شؤون الإحرام لا نزال منصرفين عن التفكير في إعداد الطعام أو القهوة، بل لا نزال تحت تأثير ذلك الشعور الروحي، وكأنه لا يعنينا من أمور الدنيا شيء، لنذهب الآن لأداء مناسك العمرة، ولن نعدم من يرشدنا الطريق إلى الكعبة المطهرة، وإن لم تكن الشوارع في ذلك العهد منارة، ولنُرح نفوسنا بما يشغلها من أمر مناسكها. ثم أخذ في تصوير كيفية ترك الأمتعة والرواحل قائلاً: ولكن كيف نترك أمتعتنا ورواحلنا؟! ها هو خدر على مقربة منا، وأبناء البادية منتشرون في هذه الجهات - كحالتهم في مداخل المدن وأطرافها - وفي الخدر - على ما ذكر عُبَيْد أحد الرفقة - عجوز معها ابنتها، وقد وعدت بملاحظة الرواحل وحفظ المتاع حتى نعود. لم تُثر رؤية هذه الأنوار الساطعة في جوانب قصر السقاف في نفوسنا كبير اهتمام، وإن كانت المرة الأولى التي أبصرنا فيها في حياتنا أنوار الكهرباء، وهذه أنوار أخرى رأيناها حين انحدرنا فبلغنا الحرم، ولكنا دهشنا عنها حين أبصرنا الكعبة المطهرة، وقد أحاط الطائفون بها مرتفعة أصواتهم بالدعاء والذكر والاستغفار، إننا بحاجة إلى من يرشدنا إلى ركن الحجر الأسود لنبتدئ منه الطواف، وبعض الطائفين ما كان يقتصر على تقبيل وحده، أو الإشارة بيده إليه بل قد يعم بذلك بعض الطائفين وبعض الأركان الأخرى، هؤلاء حجاج لم يشرعوا بعد في الطواف فلنسر خلفهم، لا حاجة إلى الاقتداء بمطوفهم بالأدعية والأذكار، فصاحبنا قد لقن إخوانه ما ينبغي ترديده منها. ثم يصف الحج والحجاج قائلاً: ما كان الحجاج - في ذلك العام - كثيرين - ولهذا فلا ازدحام في الطواف ولا مضايقة عند بئر زمزم للشرب من مائها، فقد أعُدت مشارب (بزابيز) بأقداح خارج البئر، ولكننا لم نكتف بالشرب منها حتى التضلع، بل تسللنا داخل زمزم كما يفعل غيرنا، فظفر كل واحد منا بدلو ماء دلقه الساقي الذي يُخرج الماء بالدلو من البئر فوق رأسه حتى غمر به جميع جسمه وهو يكرر (بركة يا حاج! بركة يا حاج) متطلعاً إلى أثر كلمة الاستجداء هذه في نفوسنا، ولكن (لا حياة لمن تنادي) فلم ندرك الغاية منها، فاكتفينا بالدعاء: (بارك الله فيك! بارك الله فيك!). كان الدخول إلى المسجد من غير باب السلام، فقد قالت لنا العجوز حين استوضحنا منها عن الطريق: احدروا الوادي حتى يوقفك جدار الحرم، فسلكنا الطريق الأيسر حتى أفضى بنا إلى أحد أبواب المسجد الغربية، ولم نمُر بالجودرية فالمدعى، وبعد الانتهاء من الطواف سألنا عن (باب السلام) ظناً أنه هو المفضي إلى الصفاء فأرشدنا إليه، وعند الخروج منه سرنا مع زمر الساعين، وكانوا متجهين نحو المروة، فتابعناهم ولم ندرك خطانا من أننا لم نبدأ بالسعي من الصفا إلا بعد انتهاء سبعة أشواط غير كاملة. فكان أن أعدناها كلها يوم النحر. ثم أخذ في تصوير عودته إلى مكان الأمتعة والرواحل قائلاً:واستبطنَّا الوادي عائدين إلى منزلنا في أعلاه، ومعنا أرغفة من خبز (التميز) وما كنا نحس للجوع بأثر، بعد تضلعنا من شرب ماء زمزم، بل كنا نتصور أننا سنستغني به عن الطعام، كما كنت حدثت الرفقة بحديث ذلك العالم التقي ابن القيم، وبكتابه زاد المعاد، و»منسك شيخ الإسلام ابن تيمية» كنا نستنير ونسترشد في أمور حجنا بهما. خشينا أن لا نجد في ذهابنا إلى مِنى فعرفات فمزدلفة علفاً لمطايانا فاشترينا ساعة نزولنا في الأبطح ما توقعناه، كافياً، ووضعناه بين (الشراع) وبين خباء العجوز، التي أحسسنا حين عدنا أنها قد نامت، وأبصرنا مكان العلف خالياً، فلم نوقظها ظناً أنها خبأته، ولكنها فاجأتنا في الصباح حين سألناها عنه بجملة: (الله يخلف عليكم.. كم غدا على الحجاج من جمل!!). وبقرب (حوش) وصفت موقعه لنا العجوز البدوية نصبنا (شراعنا) واتجهنا بعد أن ارتفعت الشمس حيث اتجه الناس. وفي عرفات توخينا مكان موقف المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ولم نبذل كبير جهد في الوصول إليه، إذ مكَّننا بكورنا من ذلك، وفاتنا التريث إلى ما بعد أداء صلاتي الظهر والعصر بمسجد نمرة مع جمع الحجاج، حيث أبصرنا خياماً كثيرة منصوبة بقرب جبل الرحمة، ورأينا كثيراً من الحجاج مطيفين بالجبل، غير أن شدة حرارة الشمس أذوت ما كنا نحس به من قوة، بحيث اضطر اثنان منا إلى الجلوس في ظل الناقة، ومحاولة الاستظلال بالمحامل أو الشقادف فوق الجمال، وملاهمة الماء الذي لا ينفع شربه لعدم برودته. وبالباقي من الرغفان وقليل من التمر كان الاكتفاء غداء، وكان لتأثير (القهوة) التي اعتدنا شربها، مع اشتداد حرارة الشمس ما أحدث لكل واحد منا صداعاً شديداً استمر بنا حتى صباح اليوم الثاني. ولم يكن الانصراف من عرفات بعد غرور الشمس شاقاً لقلة الحجاج، وكان الوصول إلى مزدلفة مبكراً بحيث كان النزول عند ما يعرف بالمشعر الحرام، حيث البناء المقام هناك، بقرب الجبل المعروف قديماً باسم (قُزح)، ولم نُصبح - وقد استقر بنا المكان - لركب أناخوا علينا، وصرخ أحدهم في وجوهنا قائلاً: (تقلّعوا!! هذا مكاننا ما هو مكانكم)!! بل قابلناه بصوت واحد لن نتزحزح عن مكان سبقنا إليه فنحن أحق به، ورغم مضايقتهم بالنزول علينا فقد أدركنا منهم أسفهم على ما بدر منهم، حيث قدموا لنا بقية من طعامهم، وغادرنا المكان بغلس لإحساسنا بفتور في أجسامنا من جراء حرارة الشمس، والاجهاد من أثر ما مارسناه من عمل، وربما لعدم تنظيم الغذاء أيضاً، ولكننا كمَّلنا نسكنا حتى طواف الإفاضة، واشترينا هدي التمتع من جالب غنم مر بالقرب من منزلنا من مِنى. وظننا أنه لا يجزئ، حتى يُذبح في المكان المخصص لذلك، ومن هناك حمل كل واحد منا هديه مسلوخاً إلى المنزل، ولشدة قرمنا عُدنا إلى المذبح، فأحضر كل واحد منا ذبيحة منه، لقد شُغلنا بقية يومنا بإخراج عظام الذبائح، بعد أن تناولنا من رقائق اللحم شواء وطبخنا وشرب مرق ما كفانا، ومع أن اليوم يومُ عيد الأضحى إلا أن الإحساس بشيء من مظاهره - كما بدا لنا - كان أقل مما كنا نتوقع، فالناس مشغولون بأداء المناسك من رمي الجمرة، والذهاب إلى مكة للطواف، وتُرددُ فجاجُ مِنى أصداء ارتفاع الأصوات بالتلبية والتكبير والتحميد والتهليل. كنا حريصين على أداء صلاة العيد في المسجد الحرام، ولكننا لم نصل إليه إلا بعد انتهائها. ولئن كانت مباهج الأعياد تتمثل بما يغمر القلوب من إحساس بالراحة والاطمئنان، وبخلوها مما يشغلها من هموم متاعب الحياة أياً كانت فليس من المبالغة القول بأن (حظنا من كل ذلك في هذا العيد كان موفوراً). وها نحن - وقد استرخت منا الأجسام - قد أخذ كل واحد منا مكانه، واستغرق في نوم عميق - من جراء التعب ثم الشبع - لم يوقظنا منه إلا انكفاء الظل نحو الشرق، وانكشافه عن واجهة الشّراع التي نمنا فيها. ويسترسل في حديثه قائلاً: لا يأخذ منك الاستغراب والعجب مأخذه - لقوم اعتادوا أن لا يشبعوا من اللحم إلا أيام عيد الأضحى أو حين تصاب إحدى الإبل بداء أو كسر، فتنحر - كحالة سكان القرى - لا تستغرب من هؤلاء وقد شاهد بعضهم آلاف الذبائح في ذلك المكان، يكتفي أكثر أصحابها بأخذ بضعة من لحمها بعد حضور ذبحها، ويتركها، لا تعجب لأولئك أن يصابوا بالنهم، وشدة القرم، عند رؤية لحوم تلك الذبائح، للاستحواذ على ما يستطيعون أخذه منها، فإطفاء أوار ذلك السُّعار، في مستقبل أيامهم. وبعد زوال شمس اليوم الثالث كان الاتجاه إلى مكة، بعد رمي الجمار، وبجوار خباء صاحبتنا العجوز في الأبطح كان النزول، ولكننا كنا أحرص على أن يمكث أحدنا في المنزل، بينما يذهب الآخرون لأعمالهم، وما أكثرها في هذا اليوم وما أكثر من يجب الاحتراس منهم فيه - على ما قيل لنا. وبعد ذلك أخذ يتحدث عن الدروس العلمية التي تُلقى في رحاب الحرم المكي وعن علماء الحرم قائلاً:اعتاد القادمون إلى مكة من أهل نجد في ذلك العهد ارتياد أمكنة في الحرم وبقربه، مما يجعل الالتقاء بمن يُبحَثُ عنه منهم سهلاً، فهم يتجمعون غالباً لأداء صلاة المغرب في (السّرحة) الواقعة أمام ركن الحجر الأسود، حيث يصلي (الأغوات) ويؤدي كثير منهم صلاتي الظهر والعصر في (الخلوة) المخصصة لموظفي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المتصلة بالمسجد، فيما بين بابي أجياد وأم هانئ، إذ أكثر موظفي الهيئة من طلبة العلم من أهل تلك البلاد. أما بعد صلاة الفجر فقد كان إمام الحرم الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح يلقي درساً في (السرحة) الواقعة يسار الداخل من باب السلام، وهناك يلتئم عدد منهم للاستماع إليه، لبساطة أسلوبه في الوعظ - رحمه الله - وقد يكتفي بقراءة القرآن سرداً، بنغمة شجية، ذات تأثير قوي في النفوس، وأشبه القراء به الشيخ عبدالله خياط، وكان من أخص تلاميذه، وأشبههم به سمتا، وفي الحرم مدرسون كثيرون في تلك الأيام، منهم الشيخ محمد بن عبدالرزاق حمزة، وهو ذو عناية بالغة بالحديث النبوي، فيبين المعنى بأسلوب لا يستعصي فهمه على المستمعين، وجلهم من عامة الناس، ومن المدرسين الشيخ محمد العربي التباني - جزائري الأصل - يدرس الحديث أيضاً، والشيخ جمال مالكي، عالم جليل كبير السن، واختصاصه في النحو، وألف فيه «الثمرات الجنية» ومنهم الشيخ عمر حمدان الونيسي محدث أيضاً، ومنهم الشيخ أحمد الهرساني وله حلقة صغيرة من الطلبة بعد صلاة العصر، عند باب (الداوودية) يدرِّس السيرة النبوية من كتاب «عمود النسب» لأحمد البدوي الشنقيطي، ولعل من أبرز أولئك المدرسين - من حيث كثرة الإقبال من المستمعين إليه الشيخ فيصل بن محمد بن مبارك، فقد كان يتعرض لبعض المسائل التي يكثر الخوض في ذلك العهد، مما يتعلق بدعوة الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فيعرضُها بأسلوب واضح، ويتقبل ما يوجه إليه من انتقاد برحابة صدر، ويفنده بطريقة مقنعة لا أثر للعاطفة فيها. وعلى مقربة من باب الزيارة رباط يعرف بمدرسة محمد علي، ويدعوه النجديون (رباط الحنابلة) لأن مفتيهم الشيخ محمد بن عبدالله بن حميد (1236-1290ه) مؤلف كتاب «السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة» كان من سكانه، وكذا حفيده الشيخ عبدالله بن علي بن محمد بن حميد المتوفى سنة 1346، ومن بعدها استقر فيه بعض طلبة العلم من أهل نجد، وكان ممن أدركت منهم الشيخ سليمان المحمد الشبل، كان نازلاً في الحجرة التي سكنها المفتيان الحنبليان، وشاهدت فيها كثيراً من الكتب، ومنها مخطوطات من بينها كتاب «شرح المنتهى» بخط الشيخ عبدالله بن أحمد بن عضيب المتوفى سنة 1161ه، وكان خطاً واضحاً حسناً، وفيها من الكتب المطبوعة نسخ كثيرة من كتابي «كشاف القناع» و»حادي الأرواح». ثم انتقل للحديث بعد ذلك عن أحد الأسواق الشهيرة بمكةالمكرمة قائلاً: وفي سوق (الجودرية) كان ملتقى المشتغلين في التجارة من حجاج ووافدين وغيرهم، إذ في ذلك السوق تقع متاجر مشاهير التجار ومنازلهم، وكانت الكتب التي يُجهل أصحابها من أهل نجد تطرح في مدخل دكان تاجر في ذلك السوق يدعى الفريح، حتى يبحثَ عنها أصحابُها، ولكبارهم مجالس يرتادها الزوار ممن يعنى بتلقف الأخبار العامة، أو يهتم بشؤون التجارة. أما طلبة العلم فإن أحفل مكان بهم بعد المسجد الحرام مجلس الشيخ عبدالله بن حسن بن حسين آل الشيخ رئيس القضاء، بجوار الحرم في (رباط الداوودية) ففيه يستقبل زواره بعد صلاة العصر، وبين العشائين، وفيه تؤدى الصلوات ائتماماً بإمام المسجد الحرام. وتطرق للحديث عن أحوال التعليم في مكةالمكرمة قائلاً: وفي تلك الأيام كان قد أسند إلى الشيخ عبدالله اختيار عدد من الشبان الراغبين في طلب العلم لإلحاقهم ب(المعهد الإسلامي السعودي) الذي أنشئ بإشراف عالم الشام الشيخ محمد كامل القصاب، فولى إدارته العالم السلفي الأستاذ محمد بهجة البيطار، الذي كان قوي الصلة بعلماء نجد، ووضُع لذلك المعهد منهج دراسي تتمثل الغاية منه في ترسيخ العقيدة الإسلامية السلفية، وبذل الوسع في نشرها بتخريج علماء فهموا أصولها، وتشربت نفوسهم بمبادئ الدعوة الإصلاحية التي قام بتجديدها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وإزالة ما ألصقه بها دعاة السوء لتنفير الناس من قبولها. وتم إنشاء ذلك المعهد واختيار مكان ملائم له من حيث البناء وحسن الموقع في مقر (المدرسة الهاشمية) في أعلى (أجياد) غير بعيدة عن المسجد الحرام وتخصيص إعانة شهرية لكل طالب من طلاب المعهد، من الحكومة. ثم تحدث عن التحاقه بالمعهد العلمي بمكةالمكرمة، حيث عزم على الذهاب إلى الشيخ ابن حسن، وخشي أن تخونه شدة حيائه عند مقابلته عن الإفصاح عن رغبته في الالتحاق بالمعهد، فتأنق بكتابة جمل من كلمات الشكر على النصح الأبوي، وعبر عن سروره بتقبله، وبالدعاء للشيخ، وأدى صلاة العصر على مقربة من (الداوودية) حيث منزل الشيخ، فأبصر عن بُعد أحدَ أصدقائه الذين عرفهم قبل عام في مدينة الرياض، فسعى إليه وأخبره بما عزم عليه، ونصحه بأن يذهب معه إلى الشيخ فلم يتردد، واطّلع على كتابه وطلب أن يذكر فيه اسمه وأنه ممن يرغب الانضمام إلى الطلبة، فكان ذلك مع إضافة أنه يحفظ القرآن الكريم غيباً، وبعض المتون. بعد ذلك أخذ في الحديث عن التعليم ودراسته في مكةالمكرمة وزيارة بعض الأماكن التي يتكرر ذكرها في المؤلفات القديمة من كتب التاريخ والأدب ومعجمات الأمكنة لمحاولة تحديدها بمشاهدتها وتطبيق بعض النصوص القديمة على ما اتضح من وصفها ولقد بسط القول في كثير من مؤلفاته فيما كتبه من ذكريات وزيارات لمراكز العلم والمتاحف والمكتبات ومحافل العلم وما اعتاد الاستفادة منه في كتب الرحلات حيث شغف بالرحلات فطاف بالكثير من البلدان في الشرق والغرب حيث زخرت كتبه بالعديد من البحث عن كتب التراث وعلى هذا الأساس فقد حقق العديد من الكتب وخاصة كتب التراث ونقدها مثل معجم البلدان لياقوت ومعجم ما استعجم للبكري وتاج العروس للزبيدي وانساب الأشراف للبلاذري والأمكنة والجبال والمياه للزمخشري والمعجم الكبير الذي أصدره مجمع اللغة العربية. وبعد. فقد كانت رحلته هذه وهي أول رحلة يقوم بها إلى مكةالمكرمة حيث ذكر ما شاهده في طريقه إلى الحج فجاءت فصولاً ممتعة، حيث صوّر ما اشتملت عليه من معاناة ومشقة تدل على جرأته وقوة إرادته ومضاء عزيمته بل زادته عزماً وتصميماً على السير قدماً حتى يبلغ هدفه المأمول حيث انصرف في مكة إلى العلم وترك رفاقه في الرحلة من أبناء قريته يعودون بعد ذلك واستمر في تحصيل العلم حيث التحق بالمعهد العلمي السعودي بمكةالمكرمة وتخرج فيه سنة 1353ه بقسم التخصص في القضاء الشرعي وواظب على حضور الدروس في الحرم المكي وقراءة الكتب والصحف في إحدى الغرف التي كانت ملحقة بالحرم وعني بتعيين أمكنة حدود الحرمين الشريفين وتحديد مواقيت الحج والعمرة وأسماء المواضع التي وردت في القرآن الكريم والحديث النبوي، حيث يقول إن معرفة المواضع تعين على فهم القرآن والحديث النبوي وما ورد في آثار الصحابة مما له صلة بهذا النوع. ووصف ذلك وصفاً دقيقاً وقص أحاديث طويلة وكانت مخيلة الشيخ حمد من المخيلات اللاقطة التي تلتقط كل ما تشاهده وتسجله مع التحقيق والتدقيق في الرؤية وما ينقله عن الأفواه والشفاه مما يدل أبلغ الدلالة على مدى استيعابه وجهده المتميز والذي تجلى في كثير من مؤلفاته وأعماله التاريخية والجغرافية وتصديه لكثير من الأخطاء الواردة في كتب الأقدمين والمحدثين في هذا المجال. هذا ونسأل الله التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.