دعونا نبدأ موضوعنا عن الأودية وأهميتها بالنسبة لسكان القرى والهجر قديما بهذه القصة الطريفة لشاعر اسمه ثاني المحيني، وهو شخصية ظريفة وصاحب سجايا كريمة رحمه الله أراد يوماً ان يبني غرفة طينية في قريته بالأسياح، فاختار أولاً (ثميلة) عند معراج وادي القرية في مكان يتوفر فيه الطين الرملي الذي سيجهز منه اللبن بكسر الباء ثم ينقله بعد جفافه على إحدى الدواب لمكان البناء، وفي ذلك العام من بدايات الثمانينات الهجرية جاءت شركة فرنسية متعهدة لحفر بئر ارتوازية عميقة لسقيا القرية، عندها داهمهم المطر الذي هدد بجرف اللبن في حال جريان الوادي مما جعل الشاعر يلجأ لمدير الشركة "الخواجة" يستنهض فيه النخوة بسرعة نقل اللبن من بطن الوادي إلى مكان البناء بواسطة إحدى سيارات الشركة وكتب بذلك بيتين على "طرق" الهجيني قال فيهما: انخا النشاما هل الطقاق لبني قعد بالحبيشية لوا حلالات يالاوراق ونحط بالبيت حرفية مدير الشركة "الخواجه" الذي لا يجيد العربية ولم يفهم الطلب رفع الورقة لادارة الشركة بالرياض، ويقال ان الورقة طافت العديد من مكاتب الترجمة بين الرياض وباريس لعدة سنوات كلفت قيمة بناء بيت نجدي كامل في ذلك الحين، ولم يظفر المترجمون الا بكلمتين من القصيدة، قالوا عن الاوراق بأنها جمع ورقة وقالوا عن النشاما بأنهم جماعة تعيش في الصحراء يهتم افرادها بتربية شواربهم ويجيدون الفروسية وركوب الخيل ويدخنون الغليون بشراهة، وظلت هكذا عدد من السنوات حتى فك لغزها بدوي أمي كان يحرس كراج الشركة بالرياض، مفيداً ان الشاعر كان يطلب من الشركة مساعدته بنقل كمية من اللبن (الطوب الطيني) من مكان يسمى الحبيشية إلى مكان البناء ويتمنى توفر الاوراق وهي كناية للفلوس حتى يستغني عن "منة" الآخرين على اثرها وجه مدير الشركة باجابة طلبه وبعثت لامير البلدة حينذاك بالموافقة بعد سنوات على نقل اللبن لكن بعد ان انهي حفر البير ورحلت الشركة. قصة أبودباس وفي الحكاية الشعبية التي تجسد علاقة المصالح بالأودية والصراع الدموي على حصص الماء التي قد لا تخلو من المبالغة، هناك قصة محمد ابو دباس المشهورة الذي كان يتسيد قومه مستمداً قوته من قوت ابنه دباس فكان لا أحد يجرؤ أن يعترض الوادي عندما يسيل إلا بعد ان يرتوي حقله، الا أن الابن رحل من البلدة على أثر خلاف كبير مع والده فاختلت موازين القوة ورجع ابو دباس يشرب آخر الناس بل ان الوادي يتوقف احيانا دون ان يحصل على حصته، وبقي هكذا لسنوات طويلة حتى بعث لابنه دباس بقصيدته المشهورة يستنجد به ويشتكي حالة الذل والهوان التي وصل اليها، وفي يوم ماطر اقتادته ابنته بعد ان كف بصره إلى ضفة الوادي في انتظار أن يرتوي الآخرون حتى ينال حصته لكنه تفاجأ بالسيل يعود اليه كما كان سابقا اول الشاربين، ادرك حينها عودة ابنه الذي كان بالفعل يذود بسيفه على الضفة الاخرى وتتصاعد احداث القصة وهي تصل إلى أن الاب وهو يزف البشرى لابنته بعودة اخيها طلب منها ان تفتش في السيل الجارف عن اطراف ورؤوس اخصامه التي كانت وقتها فعلا تطفو على الماء!. المدن تقوم على الماء هكذا كانت علاقة المدن والقرى مع الاودية علاقة "توأم" فلو أمعنا النظر في اختيار تأسيس مدننا وقرانا لوجدنا اغلبها ان لم يكن جميعها انشئ على ضفاف أو مصاب أحد الاودية أو اكثر؛ حتى ان مدن وقرى محافظة مثل الأسياح بتعداد مدنها وقراها التي تتجاوز العشر؛ يوجد لكل منها وادٍ أو اكثر يحمل اسمها بل أنه يوجد لبعضها بين اربعة إلى خمسة اودية ويرجع سر نزول المدن والهجر على الأودية كونها روافد مائية وحيدة في ظل شح أو انعدام الماء الذي كان يعتمد على آبار سطحية "ثمايل" تغذيها الاودية، إلى جانب غراسه بطونها بالنخيل ومصابها بالزراعة البعلية فكانت هذه الاودية بمثابة المحرك الرئيسي لاقتصاد وأنشطة القرى وسكانها، وفي فترة من الفترات انحصرت المزارع والحقول تقريبا وسط أو على جوانب الاودية ومنها نخيل كانت تغرس بأعداد كبيرة تعتمد في سقياها فقط على مياه الاودية؛ وعلى حواف هذه الاودية أو في بطونها يتم اختيار آبار صغيرة يطلق عليها "الثمايل" أو "الحساوة"، حيث يتم طيها بالحجر أو جذوع الاشجار يعتمد عليها في مياه الشرب وسقيا المواشي. وثيقة بيع لهذا فإن اشكال تصاميم القرى والهجر لدينا أتى على شكل امتداد شريطي عبر انسياب الوادي، وكلما اقتربت الاراضي من الوادي أو الشعيب زادت رغبتها وارتفعت القيمة؛ هذه احدى وثائق البيع التي حصلت عليها الرياض مكتوبة سنة 1376ه يتبين من الحدود انها كانت في بطن الوادي ولطرافة بعض العبارات والدلالات التي احتوتها سوف نستعرضها مع بعض شرح العبارات التي لم تعد متداولة أو مفهومة الآن وجاء في نص الوثيقة: " الحمد لله رب العالمين وبه نستعين لقد بعت انا يا عبدالعزيز ... قليبي المسماة أم رشا وهي معروفة الحدود والكاينة بحدري الشعيب الاوسط وطولها من قبلة للشرق ستين بوع للرجال الراهي ومن شمال للجنوب حراويهن سيل «الدرو» يحضر فجأة ويغرق المزارع ويهلك المواشي ويحدها من قبلة العوشزة الذي مغيب نجوم عن مغرز سيارة القصاب، ومن شمال جال الشعيب ومن جنوب جرف الشعيب ياقف ماقف حافة الشعيب ومن مطلع شمس غرايس عمي نايف وذلك على زيد (... ) وهي بثمن معلوم قدره سبع عشرة مية تخلف منهن ثلاثماية ريال على حتن بيعة السمن والسمين واشترطت عليه شرطا قبل فيه انه ما يتعرض الشعيب بحبوس تضر جيرانه أو تغير مشارب السيل وانه ما يمنع المسلمين يشربون من الثمايل والحساوة يحفرونها ويشربون منها من بطن الشعيب ولا يورد أهل الحلال الذين يضايقون أهل الديرة ويأكلون مفاليهم .." الخ . ويلاحظ هنا انه استخدام عبارة "قليبي" وتعني في نجد ملكي أو ارضي، ويتبين لنا من عبارة "الشعيب الاوسط" ان البلدة يوجد لها أكثر من وادٍ، ويلاحظ أيضاً ان كلمة "القبلة" وتعني الغرب للمنطقة الوسطى دائما ما يبتدئ بها الكاتب تحديد الاطوال والحدود في المكاتبات مثل استخدامنا للشمال في الوقت الحالي وقد حددها بستين (بوع للرجال الراهي)، والبوع خطوة ممدودة للرجل، ولما كانت الخطى تزيد وتنقص بحجم بنية الرجل فقد استخدم كلمة الرجال الراهي أي الكامل وفي الضلع الموازي اكتفى بكلمة "حراويهن" ويقصد قريباً منهن، وعندما وصل إلى الحدود استخدم معالم غير ثابته مثل "العوشزة"، "مغيب نجوم"، "مغرز سيارة القصاب"، "جرف وجال الشعيب"، "مطلع شمس" شمس الشتاء مثلا ام الصيف!. بيوت طينية سكنت على ضفاف الأودية ثمن البيع كان ألف وسبعمائة ريال ولكن بما أن الالف رقم أو لفظ نادر في أجندة المرحلة وتكاد لا تكون مفهومة لدى البعض استخدم الرقم "سبعة عشر ميه"، كما كان سائدا انذاك، وفي الاخير لم يغفل البائع شروط تحكمها المبادئ والاعراف مثلما جعلها الشرع حق مشاع للجميع مثل شرط عدم اعتراض الماء أو منع وصوله للجيران. الغدر طبع السيل! وبقدر ماكانت هذه الاودية مصادر خير ورزق، إلا ان طبيعتها الغدر أحيانا، فكثيراً ما كانت تباغتهم ليلا أو نهارا وتجرف منازلهم أو مواشيهم وممتلكاتهم، والأخطر من ذلك ما عرف عندهم بسيل "الدرو" عندما ينزل المطر عند الطرف البعيد من الوادي فيأتي السيل بشكل مباغت "دون مطر"، وبلا مقدمات فيجرف ما امامه ويعزل القرى والحارات ويوقف المسافرين أو العائدين، بل يمنع عودة الرعاة مع مواشيهم والمزارعين إلى منازلهم فتبات القرى جائعة، وإلى حد قريب يتذكر أهل القرى خصوصا طلاب المدارس كيف كانت تعيق الأودية وصولهم إلى المدارس لعدة ايام وقد يسيل الوادي اثناء ذهابهم للمدارس فيمنع عودتهم إلى منازلهم فيضطرون للبقاء عند جيرانهم سكان الضفة الاخرى من الوادي بضعة ايام وتبقى وسيلة الاتصال بينهم "إيماءات" بين ضفتي الوادي، ويتذكر سكان احدى قرى القصيم سنة باغتهم فيها الوادي وهم ذاهبون لاداء صلاة العيد عند احد اطراف القرية؛ فعزلهم بمصلى العيد ومنع خصوصا النساء وكبارالسن من العودة إلى بيوتهن وإكمال فرحة العيد طوال اليوم. ومع زوال الحاجة المباشرة لهذه الأودية أتضح ان الظروف قد وضعت الكثير من مدننا وقرانا في مواجهة خطر ما صنفه الآباء بثالث "الهوام" السبع، ومثلما هو يستحيل ان تغير مجرى وادٍ يستحيل أيضاً أن تقتلع مدينة أو قرية بسكانها ومبانيها ولم يبق أمامنا إلا التعامل معها بلطف، وأن نقتنع أننا مهما فعلنا بالتالي فان (السيل يتبع مجاريه)، وهو المثل الذي خلده الأجداد من واقع تجارب وخبرات طويلة عله يحمل تحذيراً غير مباشر لتجار ولصوص المخططات السكنية الذين يقيمونها على أنقاض أودية تعمدوا ردمها وطمس معالمها وبدأت الكوارث تكشف سوءتهم، وطال أو قصر الزمن فان هناك كميات من الماء وفق نظام الطبيعة هي التي شكلت هذه الأودية وستعود يوما بقدرة الله إلى ما كانت عليه.