التجربة الأولى دائمًا ما يكون لها مذاقها الخاص، ونكهتها المميزة، وذاكرتها المنحوتة على صخرة الزمن، والتي تستحضر تلك التجربة من حين إلى آخر، ففي ذلك سلوة للنفس، وتسلية للقلب، وإدخال بعض النور من ذلك السرور، الذي أحدثته تلك الذكرى. سفرنا لبلد يمتاز بطبيعة ساحرة، وحضورنا لأمسية رائعة، وجلوسنا في مكان فاره، وإقامتنا في منتجع فاخر، وصحبة مخطط لها على شاطئ فيروزي، وغير ذلك من التجارب الأولى، والتي تشكل في أحداثها هالة صلبة تحوط تلك التجارب، فتحميها من الاندثار أو النسيان على مدار الزمن، فلا تزاحمها الأحداث والتجارب التي تأتي بعدها، فتصبح هي المختارة والمصطفاة في الذاكرة، حيث تستدعيها كلما عصفت بنا الحياة، ولا تترك ذاكرتنا تفاصيل تلك التجربة، صغيرها وكبيرها، إلا وحكتها أمام الآخرين كتاريخ لحقبة زمنية، فيها التفرد والجمال والروعة. تجاربنا الأولى رغم روعتها بالنسبة إلينا، تبقى محدودة ومعدودة، ونلحظ ذلك من خلال تكرار الحديث حولها، فيتفاعل معها الناس من حولنا، والذين لم يكونوا شهودًا فيها، ثم لا يلبثون أن يتخذوا سلوك الملل والسأم والضجر، وعدم الحماسة لدى سماعهم لتلك التجارب، والذي بدوره ينتقل إلينا – شئنا أم أبينا – فنحاول جاهدين البحث في الذاكرة عن تجربة تسعفنا، ليعود ذلك التفاعل والوهج، فنكتشف أننا لا نمتلك منها الكثير، بل النزر اليسير. لِمَ لا نكثر من تجاربنا الأولى ونزيد من رصيدنا فيها؟! الحياة مليئة بالأماكن والشخوص والفعاليات، والتي يمكننا من خلالها أن نصنع تجارب فريدة أخرى، تُضاف إلى ذاكرتنا ؛ فتسقي أرضها، وينمو زرعها، فلا تغدو متصحرة لا حياة فيها، بل تكتسي بالمروج الخضراء، والتجارب الحديثة التي تجمل أيامنا وليالينا، وتكون في ضيافة طويلة في ذاكرتنا. وإن ضاقت بنا الحياة، ولم نتمكن من التجديد، فلا مانع من تكرار نفس التجارب، ولكن بأسلوب آخر، وبنظرة مختلفة وبرؤية أوسع وأشمل، وبتفاصيل أدق، فإن جربنا ذلك المكان نهارًا فلنحرك عقارب الساعة ونجربه ليلاً، وإن كان مكان جلوسنا في المنتصف، فليكن في الزاوية، وإن كان في معيتنا في تجربتنا الأولى بعض الصحبة، فلتكن تجربتنا الثانية خالية من الصحبة، ومع إحداث بعض التغييرات حتى لو كانت ضئيلة، فأظنها ستغير التجربة، وستعطيها نكهة جديدة، ولربما تنسينا تجربتنا الأولى، فتحل محلها تجربتنا الثانية. إن التقوقع في دائرة تجاربنا الأولى، وعدم التجديد فيها بتجارب مستحدثة، سيصيب حياتنا بالتوقف والانعزال والغربة في الأفكار، وستبقى عقارب الساعة جامدة دون حراك، وكأنها مكبلة بقيود تلك الحقبة الزمنية، ولن يذيب ذلك الجليد إلا شمس الانطلاق والتحديث والتغيير، عندها سيكون تناول القطعة الثانية مماثلاً في اللذة للقطعة الأولى، وزيارة المكان الرائع في المرة الثانية، ستكون بالروعة نفسها للمرة الأولى، وتجاربنا الثانية والثالثة والرابعة سيكون لها الطعم نفسه لتجاربنا الأولى، إن لم تتفوق عليها وتتخطاها. قال الفيلسوف دوستويفسكي: «يتفق أحيانًا أن يخطف انتباه المرء شيء تفصيلي تافه لا قيمة له يبقى في الذاكرة بعد ذلك زمنًا طويلاً».