إنه يتنفس بشدة، يتكلم، ينمو، يموت، يتحرك، يذبل، يغضب، يحزن، يتضخم، يتقزم، يتوجع، ينتشي، يتعايش، يرفض، يتماهى، يتباهى. كائن حي يرفض الجمود، لأنه يعيش، لأنه الحياة، لأنه المسرح حيث نحب أن نكون، حيث يكون الفعل والاسم، حيث نتحرر منا لنرسم لنا. حيث يكون المسرح بحرا ممتد الأطراف، متنوعا، متغيرا، متجددا، فالمسرح الساحر والمسحور، الكائن والممكن، الموغل فينا حد السكن، المشبع بحزننا وفرحنا، المشعل ليباس عقولنا، المحرك لعوالم أفكارنا. المسرح حيث الحكايات التي لا تذبل، حيث المساءات التي لا تغيب، حيث الحوار والنقاش والخلاف والاتفاق. المسرح حيث يكون تكون الحياة. الحكاية انطلقت من شخص اسمه الكاتب ومن ثم شخص اسمه المخرج ثم تناسلت المخلوقات شخصا وشخصا وشخصا. الفعل الفردي تحول إلى عمل جماعي ممتلئ بالأشخاص والحكايات والتفاصيل والاتفاقات والتنظيمات والمخاطبات. ها هي لحظة الانعتاق تبدأ بقراءة، ثم تفسير وتحليل وتهجى ثم حركة وفعل ثم علائق متنوعة ومترابطة يشترك فيها الجميع.. مؤلف ومخرج وممثل وفنيون وإداريون. وفي المقابل يترصد لك متلق يبحث ويحلل ويناقش ويعترض ويشيد ويبني ويهدم.. يفرح ويحزن. أنتم كمجموعة تجربون عليه وهو يجرب عليكم في إطار تكاملي. بين قراءة الطاولة للنص الجديد وحالة البروفة لعمل ما، سجلت هذه التقاطعات لهذه الحياة: البروفات تبدو متعسرة بعض الشيء. كل شيء موجود تقريبا.. النص المخرج الممثل الفني. الكل كان حاضراً ولكن الغائب الأكبر هو المساحة التي نلعب بها. الإحباط كان يسيطر على روح العمل منذ البداية، دعونا نستهلك الوقت في النقاش، يستهلكنا نقاش طويل ومرير حول تفاصيل العمل، الأفكار تتوالد كالأرانب ولكنها تهرب بخفة وسرعة، لأن الصوت الذي يتكرر مع كل فكرة ليس هنالك إمكانات فكيف يمكن أن تعمل وسط هذه الظروف؟ ندخل جميعا مؤلف ومخرج وممثل وفني لقاعة مسرح بائسة نرتطم بالأشياء التي نقابلها.. الكراسي المتناثرة في صمت وذبول، قطع من الخشب، توصيلات كهربائية تمتد كثعابين، قطع من ملابس قديمة ممزقة ننتشر في المكان، يسود الظلام والصمت ولا يبادر شخص بإشعال الإضاءة. السكون الذي يحل في المكان الصاخب يجلب الراحة والمتعة ويتيح لك فرصة الاسترخاء والتأمل. وعندما ينتظم فعل السكون ويستمرر لفترة أطول يكون الضجر والملل فيفقد المكان بهجته.. همس خافت رتيب يسود الآن، حالة من الضجر ترتسم على كل الملامح القابعة على الكراسي أمامي. أشير إلى المنطقة الرمادية التي نعمل بها الآن. الأشياء لا تبدو بيضاء ناصعة وهي كذلك ليست سوداء داكنة. إنها رمادية والتعامل يجعلك عاجزاً عن تحديد موقعك أو موقفك أو انفعالاتك. قد تبدو متفاعلاً متفائلاً.. ربما تكون متشائماً سعيداً أو حزيناً صامتاً أو ثرثاراً. ببساطة أنت لا تستطيع تحديد الحالة أن تمارس نفسك بها، لأن بهجة الزمان والمكان تفقد نفسها دون هذه الممارسة. دعونا نستمع لموسيقى مقترحة للعمل، وأثناء ذلك ليمارس كل منا نفسه بالطريقة التي يريد، أضع الشريط، تنساب الموسيقى برفق ثم بصخب.. الأشياء تبدو محايدة تماماً مرة أخرى. أضع أوراقي أمامي وأنطلق في تسجيل الملاحظات.. شيئاً فشيئاً تتسرب الموسيقى إليهم جالبة معها عوالم جديدة، لكن رتابة المقطوعة تجعلني أشعر أن المشروع قد يفقد نفسه. تتوقف الموسيقى، نجتمع لطرح الملاحظات والتفاصيل التي سجلتها خلال هذه الفترة. يتم اقتراح أن يستمر المشروع ليوم الغد مع الاهتمام بأن يحضر كل شخص مشروعه المتعلق بالشخصية على مستوى قراءة النص مسبقاً.. نناقش بعض التفاصيل الأخرى. نقرر الانسحاب، نطفئ الصالة ونغادر. يحل الظلام. ينسحب الجميع في هدوء. في الموعد المحدد نعود لنفس المكان، نجده كما هو بنفس تفاصيل اليوم السابق. نشعل الإضاءة والموسيقى. تتوزع المجموعة في أرجاء الصالة. أشعر أن المساحة لم تعد فارغة. إنها ليست المساحة الفارغة التي تحدث عنها بيتر بروك. إنها نوع من الفوضى المرتبة. أرصد أوضاع الممثلين. نجتمع مرة أخرى للنقاش. يتحدث الجميع عن الأثر السلبي الذي تركته الموسيقى في اجتماع الأمس. يجمع الجميع على أن الموسيقى شتتت أذهانهم وأنهم حاولوا الهروب والانفصال عنها لكنهم لم يتمكنوا. يتم اقتراح توزيع الوقت بين سماع الموسيقى ثم الانفصال عنها نحو النص. ننطلق في مناقشة حول بعض الشخصيات وتفاصيل العمل. نتفق أن نجتمع في الغد مع ضرورة اصطحاب مشروع مكتوب حول النص. أتأخر قليلاً عن الدخول للقاعة يسبقني الجميع عندما ألحق بهم بعد ربع ساعة. أدخل المسرح. يشدني المنظر. ابتسم قليلاً. بروفة الطاولة تتم من خلال حركة عشوائية في كافة مناطق الصالة المتسعة. الحركة لا تأخذ شكلاً واحداً ولا تقتصر على الممثلين بل يشترك بها الفنيون وبعض الأشخاص الذين أشاهدهم للمرة الأولى. الأصوات العالية وحالة الحركة المتداخلة تشد الجميع.. كل من يدخل الآن هذه المساحة يشترك في اللعبة ويمارسها بفرح غريب.. أدخل معهم في اللعبة. ننغمس جميعاً فيها. يلتهمنا الوقت دون الوصول لنقطة بداية. بروفة طاولة نمطية يتم خلالها توزيع الأدوار أكثر من مرة دون أن يتمسك شخص بدور ويدافع عنه. تتكرر العملية ثم تنتهي عند حد الإرهاق الذي تصاب به المجموعة فنتوقف. نمارس نقاشاً حول بعض تفاصيل الحركة والديكور. يقترح كل شخص تصوراً خاصاً. نستمر في النقاش. نتداخل ثم نفترق على موعد اليوم التالي. بعد تحديد نهائي للأدوار تصبح الأمور أكثر تركيزاً وأقل أحداثاً نستمر في قراءة النص ومناقشة بعض التفاصيل به، يتم اقتراح بعض التعديلات. نتناقش بها ثم نتوقف لمناقشة شكل العمل. ثمة حوار يوشك أن يتحول من شكله المكتوب إلى شكله المنطوق، ثمة نص ينبض، ثمة ممثل يريد أن يتحرك ويتماهى ويتباهى وهو يجسد دوره، ثمة خشبة تود أن تنطلق صمتها لتتحرك عمل يتشكل ليقدم نفسه بشدة، ثمة إضاءة تود أن تتحول من وضع الجمود لوضع الإشعاع لكي تصنع الجمالية والوضوح، ثمة عمل يشكل نفسه باتجاه العرض.