تسيطر جنسيات بعينها وبشكل كامل على مهن محددة في سوق العمل السعودي، حتى تحولت بعض تلك المهن إلى ما يشبه الكانتونات المغلقة التي يصعب على بقية الجنسيات اختراقها حتى لو على استحياء، فيما يبقى السعوديون بعيدون تمامًا عنها لأسباب كثيرة، منها ذاك الطوق الذي تضربه تلك الجاليات على المهن التي تعدها حكرًا عليها، ومنها كذلك الترسبات الثقافية السلبية التي جعلت من الشباب السعودي غير مستعد للعمل في المهن البسيطة حيث عدّت كثير من المهن وضيعة لا تصلح للمواطن، وإن كانت هذه النظرة قد بدأت تتغير في السنوات الأخيرة، وبات ينظر إلى كل المهن كفرص ثمينة يمكنها المساهمة في محاربة بطالة المواطن، وتعزيز حضوره في السوق وتأثيره في اقتصاد بلده. كما يلعب حرص الجاليات على تعليم أبنائها فقط مهنًا معينة دورًا مؤثرًا في إبقاء هذه المهن حكرًا عليها، فيسيطر المصريون مثلا على سوق نقل الأثاث والموكيت والسجاد والمطابخ، ويسيطر الباكستانيون على الحلاقة والخياطة والبلاط والجلي والتبريد والتكييف، ويسيطر اليمنيون على أسواق أبو ريالين ومحلات بيع الشيشة والمعسل ولوازم الرحلات، والسوريون على محلات بيع الألبسة ومحلات الجزارة، والسودانيون على مهن المحاسبة. جولة كاشفة لا يحتاج الأمر كبير عناء، لاكتشاف تلك السيطرة التي تفرضها جنسيات معينة على مهن بعينها، إذ تكفي جولة كتلك التي أجرتها «الوطن» لتكشف الأمر، حيث بينت تلك الجولة أن المصريين يسيطرون على عدد من القطاعات ومنها نقل الأثاث وتخزينه وبيع وتركيب الموكيت والسجاد والمطابخ، سواء كانت جاهزة أو تفصيل، وعند السؤال، أجاب محمد علي «جئت إلى السعودية، وليس لدي أي خبرة سابقة في هذا العمل، فأنا أحمل شهادة دبلوم تجارة، ولكن حين وصلت هنا وجدت فرصة عمل في محل لبيع المطابخ، وبعد عدة سنوات أتقنت العمل، وصرت أدير المحل بشكل كامل». وبالانتقال إلى منطقة السجاد والموكيت في حراج ابن قاسم، قال أحد العاملين هناك، وهو مصري «جئت إلى الرياض بحكم وجود أحد أقاربي هنا، كان يعمل في السعودية منذ سنين طويله، وبدأت تعلم أصول العمل وكيفية إقناع الزبائن بالشراء، وتوفير عدد من وسائل الترغيب مثل التوصيل المجاني للمنزل». وأضاف «حتى من يقومون بتوصيل وتركيب السجاد أو الموكيت للعميل هم أيضًا (بلدياتنا)، ويقصد من المصريين، وحتى من نفس المنطقة التي ينتمي إليها، بل وأغلب العاملين في هذه المهنة في الحراج هم من مناطق مجاورة لبعضها بعضا في مصر، ومعظمهم معروفون بعائلاتهم». سيطرة يمنية بدورهم، يسيطر اليمنيون بشكل كامل على محلات بيع الشيشة والتبغ ومستلزماتها، إضافة إلى محلات بيع لوازم الرحلات، ويقول علي الذي يعمل في أحد محلات بيع الشيشة «أعمل وثلاثة من أخوتي في هذه المهنة.. لقد تلعمناها منذ فترة قصيرة فقط، وتحديدا مع بدء السماح ببيع الشيشة داخل المدينة». ويكمل «لم تكن لدينا في السابق أي خلفية عنها أو حتى معرفة بها، لكنها من المهن السهلة التي لا تتطلب مجهودًا كبيرًا، ومع ذلك فإنها تحقق دخلًا جيدًا». ويضيف «أتوقع عدم إقبال السعوديين على هذه المهنة بسبب اعتقاد كثير منهم أن العمل بها حرام وغير شرعي». ويكمل «اليمنيون يمتهون هذه المهنة منذ سنوات طويلة، حتى أنهم كانوا يصنعون المعسل ويخلطونه بشكل يدوي بشكل كامل قبل صدور قرار منع بيعه». أبو ريالين تتجلى السيطرة اليمنية كذلك وبشكل كبير على محلات الإكسسوارات والتخفيضات المعروفة باسم «أبو ريالين» أو «أبو خمسة»، ويقول أحد العاملين فيها «يفضل معظم اليمنيين هذا النشاط من الأعمال، فهو ذو دخل مرتفع سواء للعاملين فيه أو لصاحب العمل، لكنه يعد من المهن التي تتطلب مجهودًا كبيرًا، حيث يعمل لساعات طويلة جدًا، لكنه يبقى من المهن التي لا تحتاج من العاملين فيها أي شهادات أو خبرات، كما أنه من السهل نقل الكفالة عليه أو من خلاله سواء في المحل أو المؤسسة المشغلة له تحت أي مسمى أو مهنة». ويضيف «كثير من المؤسسات أو الشركات المشغلة لهذه المحلات تسيطر عليها عائلات أو أشخاص ينتمون إلى نفس المنطقة من اليمن، وهم في الغالب يفضلون توظيف وجلب أبناء منطقتهم للعمل معهم في نفس الشركة». المحاسبة في محل تجاري كبير، يجلس معتصم النجعي خلف كومبيوتر متواضع وأمامه أكوام من الدفاتر والفواتير. يقول معتصم وهو سوداني «الأمانة طبيعة في السودانيين، وهي تلازمهم وقد تربوا عليها حتى في دراستهم هناك دروس خاصة عن الأمانات والآداب المجتمعية في السودان». وقال زميله أحمد المرتضى «نتيجة هذه الطبيعة، تصبح الثقة متبادلة بين أصحاب العمل والعمال السودانيين، لذلك كثيرًا ما يتولى هؤلاء أمور المحاسبة في المحلات التي يعملون فيها، وقد تكرس هذا نتيجة تجارب كثيرة،». أعمال البناء يقول خان وهو أحد البنائين من الجنسية الباكستانية إن «أكثر الباكستانيين الذين يعملون في السعودية يأتون للعمل عن طريق وساطة من سبقهم في العمل، وأغلبهم يأتي دون تعليم إنما يعمل بالخبرة في مجالات ذات صلة بالبناء مثل جلي البلاط والحدادة والخردة والتبريد والتكييف، وكذلك بيع أدوات السباكة والكهرباء، وهم يسيطرون تقريبا على هذه الأعمال مستفيدين من كونهم أول من امتهن العمل في هذه المجالات في السعودية، وهم يستقدمون أبناء جنسيتهم ويعلمونهم العمل ويكسبونهم الخبرة». وبين بهزاد محمود من الجنسية الباكستانية الذي يعمل في مجال التبريد والتكييف أن «أكثر الذين يعملون في مجال التبريد والتكييف يأتون أيضا لهذا العمل عن طريق الوساطة، حيث يستفيد القريب من قريبه الذي وصل قبله للسعودية، فيتولى هذا الأخير احتواءه ويعطيه الخبرة ويعلمه كيفية العمل في مجال التبريد والتكييف لفترة، وحين يقوى يذهب ليشغل محلًّا مستقلًّا بنفسه، وهكذا تبقى الدائرة». ويشير محمد زيا الذي يعمل في مجال السباكة والكهرباء إلى أنه اكتسب هذه المهنة عن طريق الوساطة والخبرة، وقال «مثلما استفدت من أقاربي الذين سبقوني للسعودية، سأفيد بدوري الأقارب الذي سيأتون إلى هنا». السيارات الكبيرة لا يبدو الحال مختلفًا في مجال النقل بالسيارات الكبيرة (شاحنات ونقليات) مختلفًا عنه في مجال أعمال البناء، فثمة سيطرة لكنها هذه المرة للأفغان، الذي يقول أحدهم «عند وصول أي شخص من بلدنا ويرغب في العمل، فإننا نتشارك جميعًا، ويدفع كل مقتدر منا مبلغًا ماليًّا حتى نجمع له سعر سيارة يبدأ العمل عليها، ومن إيرادها يسدد المبالغ التي دفعناها له لشراء السيارة التي تصير ملكه ويصبح إيرادها بالكامل له بعد سداد قيمتها». الجزارة تبدو مهنة اللحامين أو الجزارين حكرًا في جزء كبير منها على السوريين، ويقول أحد العاملين فيها «أعمل في هذه المهنة من 27 عامًا، وقد أخذتها عن أبي، الذي أخذها بدوره عن جدي». ويضيف «أعمل في هذه المهنة مع أشقائي الثلاثة، ومعظم من يعمل بهذه المهنة تقريبًا جاؤوا من منطقة أو مدينة واحدة من سورية وهم يعرفون بعضهم بعضا بشكل كامل»، وبين أن نشاطهم لا يقتصر في السعودية فقط ولكنه امتد إلى دولة الكويت أيضًا، ومعظم اللحامين أو الجزارين هناك هم من نفس المنطقة أيضًا». في مدينة أبها ثمة ربما نحو 10 محلات للجزارة، كل العاملين فيها ينتمون إلى مدينة النبك الواقعة على بعد 80 كلم شمال العاصمة دمشق، وفي أحد هذه المحلات يعمل 4 أشقاء، ويؤكدون «نمتهن هذه المهنة منذ سنوات طويلة، نعمل جميعا في هذا المحل.. أغلب أبناء مدينتنا يمتهنون هذه المهنة، وكل منهم يتعلمها ممن سبقوه». ولا يسيطر السوريون فقط على مهنة الجزارة فقط، بل يحضرون وبكثافة في ورش السيارات حيث يعملون في التصليح أو السمكرة. واللافت أن مهنة إصلاح السيارات انتقلت بعد بدايتها التي كانت مقتصرة على اليمنيين لتصبح في يد السوريين الذي اكتسحوها حسب ما يوضحه لؤي الذي يعمل ميكانيكيا في إحدى الورش، ويقول «ليس شرطًا أن كل العاملين في هذه المهنة جاؤوا إلى هنا وهم يحملون خبراتهم في تصليح السيارات، حتى السوريين الأوائل في هذه المهنة هنا تعلموها عند افتتاح صناعيات السيارات من اليمنيين، لكنهم طوروا خبراتهم، وبدأوا يعملون أبنا جنسيتهم هذه المهنة شيئًا فشيئًا». مبررات السيطرة يشدد المستشار الاقتصادي والمصرفي فضل البوعينين على أن للسيطرة على مهن محددة أسبابها المختلفة، منها ما هو مرتبط بالاقتصاد، ومنها ما هو مرتبط بالمجتمع، ومنها ما هو مرتبط بالأمن، وقال «بعض المهن تعد وظائف مفقودة تسيطر عليها العمالة الأجنبية ويحرم منها السعوديون، وفي الوقت نفسه تتحول بعض هذه المهن إلى منشآت صغيرة تسيطر على قطاع بأكمله، وبالتالي يحرم السعودي من الدخول فيها بسبب المنافسة الحادة من الأجنبي، إضافة إلى التستر الذي يظهر في هذا القطاع». وأكد أن «غالبية العمالة السائبة التي تأتي من الخارج تجد في بعض المهن ملجأً لها، فتستفيد من تلك المهن في تحقيق إيرادات والاستمرار في المجتمع، ولهذا آثاره المجتمعية المدمرة، خاصةً أن بعض هذه العمالة التي لا تستطيع توفير لقمة العيش لأسباب مختلفة قد تلجأ لمخالفات مضرة بالمجتمع والدخول في المحرمات مثل بيع المخدرات أو بعض الأعمال غير الأخلاقية التي تترك أثرها السلبي على المجتمع، وتدمر الناشئة بشكل خاص». تأثير ديموجرافي تابع البوعينين أن «وجود العمالة وبكثرة يؤثر في التركيبة السكانية، كما يؤثر أيضًا على الأمن المجتمعي، كما يعتقد أن الجرائم والمخالفات التي تحدث من العمالة الوافدة هي الأكثر والمسيطرة في الوقت الحالي، وبالتالي كل عمالة وافدة ليس لها وظيفة مباشرة إنما تمارس مهنتها بحرية في الأسواق، وفي الغالب يكون لها انعكاسات خطيرة على الأمن والمجتمع». وأشار إلى أن «الاقتصاد يتضرر ضررًا كبيرًا بسبب جريمة التستر، وبما يحوّل من أموال ضخمة خارج المملكة، وهذه تضر بالاقتصاد وتضر أيضًا بالمجتمع، وبالتالي فإن محاربة هذه العمالة المسيطرة على هذه المهن التي يفترض أن يتسنمها السعوديون هي محاربة حقيقية لملف التستر ومحاربة حقيقية للأضرار المجتمعية التي تحدث ومحاربة حقيقية للانعكاسات الأمنية المتوقع حدوثها بسبب تواجد هذه العمالة». عامود ارتكاز يرى عضو الجمعية السعودية للاقتصاد الدكتور عبدالله بن أحمد المغلوث أن «العمالة الأجنبية تشكل عمود ارتكاز في اقتصادات الدول، وعنصرًا أساسيًا في الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري والخدمي، خاصة في اقتصاد الدول ذات الدخل المرتفع المتعارف عليه بالدول الغنية، وذلك يتزامن مع تقدم وتطور هذه الدول، الأمر الذي قد يتعدى مقدرة العمالة الوطنية لتلبية هذه المتطلبات المتزايدة طرديًّا مع تطور الدولة وتقدمها، مما دعا إلى توفير الأيدي العاملة الأجنبية من أجل تلبية تلك المتطلبات». وأضاف «تشهد هذه الدول الغنية والمتقدمة تزايدًا طرديًّا في معدل العمالة الأجنبية بشكل دائم، حيث إن هذه الدول مع مرور الوقت ستعتمد على العمالة الأجنبية في نهوض اقتصادها بشكل كبير، لتصبح عنصرًا أساسيًّا في الإنتاج على المستويات الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية، ومن أسباب وجود الأيدي العاملة الأجنبية في الدول المتقدمة: - قلة عدد السكان في الدول الغنية. رخص الأيدي العاملة الأجنبية. ارتفاع مستوى الدخل القومي للدول الغنية أكثر من الدول المصدرة للعمالة، بشكل قد يصل الى عدة أضعاف. عدم قدرة الأيدي العاملة الوطنية على الإيفاء بمتطلبات التطور والتقدم. عزوف الأيدي العاملة الوطنية عن بعض المهن والمجالات. الدعم الحكومي للمواطنين وذلك من توفير الوظائف عالية الرواتب». وأضاف «كل هذه الأمور حصرت وجود كثير من العمالة الوطنية في الوظائف الحكومية وجعلها غائبة عن القطاع الخاص، وجعلت إقبال المواطنين على التعليم المهني والتقني ضعيفا، ما يترتب عليه عدم وجود خبرات وتخصصات وطنية لازمة وضرورية». وتابع «انطلاقًا من أهمية العمالة الأجنبية ودورها البارز في كثير من الدول المتقدمة، فإن هناك عدة إيجابيات تحققها هذه العمالة: الإسهام في المسيرة التنموية، من خلال المشاركة في أعمال البناء وتكوين المؤسسات التجارية والصناعية والبنى التحتية، والمساهمة في ديمومة عدد من القطاعات الاقتصادية مثل قطاع النقل. سرعة إنجاز المشاريع الحيوية والخدمية. ايرادات لخزينة الدولة المتحصلة من الرسوم والضرائب و تصاريح العمل». سلبيات لا يمكن إنكارها يركز المغلوث على أنه مقابل إيجابيات وجود العمالة الأجنبية، فإنه لا بد أن يقابلها وجود سلبيات متعددة أيضًا، مثل: - اقتصار العمالة الوطنية على القطاعات الحكومية فقط، وترك القطاع الخاص لسيطرة العمالة الأجنبية. زيادة أعداد العمالة الأجنبية في قطاعات معينة، أدى إلى سيطرة العمالة الوافدة على قطاعات عدة في ظل اختفاء العنصر الوطني، الأمر الذي جعلها تتحكم بالسوق من حيث الأجور وسعر المنتج بشكل عام. ظهور أنماط حياتية جديدة، مثل انتشار البطالة بين أفراد المجتمع. التأثير الصحي للعمالة الوافدة، إذ قد تنشر العمالة الأمراض الوبائية، وخطرهم ظاهر على صحة البيئة بوجود عدد كبير من العمالة في بيئات غير صحية، وعدم إكتراثهم بنظافة البيئة والنظافة الشخصية. هذه العمالة عبء على الاقتصاد المحلي، لعدم مهارتها، ولوجود مثيل لها من العمالة الوطنية. ضغط العمالة الوافدة على الخدمات العامة يؤثر على مستوى هذه الخدمات». التعامل مع العمالة يحدد المغلوث كيفية التعامل مع العمالة الأجنبية، ويقول «بعد تحديد الآثار السلبية، وتحديد المشاكل والتحديات التي تواجه المجتمع، يتطلب الأمر البحث في طرق لحل هذه المشاكل من أجل تصحيح واقع سوق العمل، ويتم ذلك بتحقيق مجموعة من القرارات والتوجهات». قرارات لا بد منها للتعامل مع العمالة الأجنبية تأهيل الكوادر الوطنية. تغيير الثقافة العامة، بتعديل نظرة المواطنين لبعض الأعمال التي يصفونها بأنها (دونية). تعديل سياسات استقدام العمالة جنسيات مسيطرة المصريون نقل الأثاث وتخزينه والمطابخ السودانيون المحاسبة والرعي السوريون الجزارة وورش السيارات اليمنيون محلات أبو ريالين، وبيع الشيشة والمعسل الباكستانيون الخياطة والحلاقة والتبريد والتكييف ومهن البناء الأفغان النقليات والشحن