لأنها ساحرة، فقد كان الفتى القروي ورفاقه مفتونون بها في شهور السنة الأخرى، فكيف لا يفتنون بها في شهر رمضان؟! هي كرة القدم، التي لا يُعلم كيف استطاعت أن تخترق حصار القرية، وأن تنتهك خصوصيتها، وتتغلغل في نفوس أطفالها، لتسبق سطوة الكبار في غرس قيم القرية وثقاقة العيب فيها، لم يكن الفتى القروي ورفاقه ينظرون إلى المولعين بها نظرة من يرى في ممارستها انتقاصا من رجولتهم، كما كانوا ينظرون لأشياء أخرى كان يفعلها أطفال القرية، بل كان الكبار أيضا يتابعونها بحب، ويتعاطفون مع أبنائهم في ممارستها شريطة ألا تعيقهم عن العمل. في رمضان، لم تكن لقاءات الكبار في بيوت القرية كافيا لإشباع رغبة الفتيان، إذ كانت كرة القدم مبتغاهم الأبرز في ليالي رمضان، لكن العوائق كثيرة، فلا يوجد مكان مناسب لتحقيق رغبتهم هذه، ولا الإمكانات البشرية والمالية التي تساعدهم في إنشاء ملعب ليلي في رمضان، فما يجدونه من معاناة في الإجازات كان يكفي، فكلما أرادوا اللعب في ملعب القرية (وقد كان صاحبه يزرعه في موسم الزرع ويلعبون فيه بعد الحصاد) لم يسلموا من ضربه لهم، وتعنيفه إياهم، وطردهم، وملاحقة كرتهم الوحيدة بعصاه، قبل أن ينقض عليها ب(شفرته) ليطعنها عدة طعنات في خاصرتها المثخنة بالتقادم. في رمضان القرية لم تكن هناك كهرباء، فقد كانت السرج "الفوانيس" مصدر الضوء في بيوتهم، ليتطور الأمر فيصبح لديهم "أتاريك" تعمل على الغاز، ومن شدة ولع الفتيان بكرة القدم كان بعضهم يمارسها بين بيوتات القرية، فتضاء لهم الفوانيس، أو الأتاريك في مشاهد لا تخلو من طرافة ومن شفقة. ما زال الفتى القروي يذكر أن تلك الرغبة توسعت أكثر؛ ليكون الملعب الليلي في رمضان مطلب عشاق كرة القدم في القرية، ومازال يذكر أن تلك الرغبة تحولت من حلم إلى واقع، لكن مطاردة كرة القدم في ليل القرية المظلم، كان يشبه إلى حد ما مطاردة الأشباح في مدينة يسكنها العميان. تحقق الحلم، لكن المتعة في رمضان لم تكن محصورة في كرة قدم وملعب مغتصب وإضاءة خافتة. رمضان القرية حكايات لا تغيب، وذكريات أخرى لا تنسى.