أحاط العربي بأسرار لغته العربية بذوقه الفطري اللغوي السليم إحاطة تامة، ولهذا أدرك دلالة كلماتها بدقة، فكانت المواءمة بين الألفاظ والمعاني في كلامه سليقة فطرية. فإذا صادف أن خرج الشاعر عندهم عن تلك الدلالة، واستخدم «كلمة» في غير ما وضعت له، فإنه يحاول إصلاح هذه «الكلمة»، كما فعل «طرفة بن العبد» مع الشاعر «المسيب بن علس»، وذلك حينما وصف «الجمل» ب«الصيعرية»، التي هي في اللغة العربية الفصحى من سمات «الناقة» فقط، فحاول «طرفة» أن يعيد ذلك الشاعر إلى الصواب، فقال: «استنوق الجمل»، بعد أن علم الخطأ بفطرته اللغوية السليمة، باعتبار أن تلك الصفة وضعت للناقة لا للجمل. وحفلت كتب الأدب والشعر في اللغة العربية بالكثير من الأمثلة في هذا المجال، ومنها على سبيل المثال ما روي عن «النابغة» في نقده شعر «حسان بن ثابت»، وذلك عندما أنشده: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمَا ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما فقال له «النابغة»: أنت شاعر، ولكنك قللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فمثل هذا النقد للمبالغة يأتي تحت نقد المعنى؛ لأن المقام كان «مقام فخر»، وكانت المبالغة مطلوبة، ولكنه فخر بأولاده ولم يفخر بأجداده. فما أحرانا اليوم أن نرتقي بإمكاناتنا اللغوية، ونطور قدراتنا فيها، بعد أن لحنت بمفرداتها ودلالاتها ألسنتنا، ورطنت بها ذائقتنا، فبتنا نعيش عجمة عربيزية مقرفة، خالية من الجرس الذوقي والجمالي المرهف.