ليس ببعيدٍ عن ذلك الجدل المتوارث، والذي يتبدّى كصراعٍ أزليّ، صراع لا يفارق ولا يرحم طائر العمر، وهو يحلّق فوق رقعة الجغرافيا وتحت مظلة التاريخ، طائرٌ جناحاه ضدّان متكاملان، أحدهما العاطفة التي تبدو حالمة وتلقائية، والتي كلما أشتدّ عودها زادت صبيانيتها وتمدّدت رعونتها المفرطة، وأما الآخر فهو العقل الذي حسبه البعض عبداً للعاطفة، وخشي منه البعض الآخر، إن عمل بحريته أن يأد رفيقته، بأن يقتل تلك العاطفة العميقة، أو يجعلها توصل سباتها بنومها الأبديّ. العقل العربيّ: أدرك جيداً أنني قد غبتُ كثيراً، وبغيابي قد تلوّن الكثير من الأغشية، وتراكم الكثير من الأغطية، ولكن كيف سأنطق في محرابٍ غزته الرومانسية برغباتها، ونزعاتها ومخاوفها، فأنا ببساطة غير مرحّبٍ بى! العاطفة العربية: لا تلمني إن تملّكتُ وطناً مهجوراً، أو تقبّلت العزاء عند رحيلك، أو ابتسمت بمجرد نسيانك، فمهما توالت الدهور، كنتُ وسأبقى مجرّد شعور! العقل العربيّ: كلّ ذلك لا يهمني، ولكن بحضرتك قد أصبح العرب يقايضون الطعام بالصمت، ويتحدثون فقط بعد لحظة الجوع، ينعتون بعضهم بالبطولة إن ضحوا بأنفسهم من أجل غيرهم، ويكتفي المضُحّون عندئذ بلقب البطولة، وببضع ورود ذابلة تتلاشى، وتنتحر فوق قبورهم. العاطفة العربية: كنتَ وما زلت تظلمني، وتنسى أنني تربيت في كنف ذاكرةٍ من الصولات والجولات، وفي طفولتي رأيتهم يكتبون الأشعار الموزونة، ويعلقون المعلقات، يروون قصص الحب العذريّ، ويجيّشون قصائد الحب الجيّاشة، فما المشكلة إن غُلّفت خشونة الحياة بنعومتها! وماذا يمنع الأحلام إن رغبت أن تنسى الأحزان! العقل العربي: وماذا عن ذاكرتك الواهية وأوهامك المتقلبّة؟ فأتباعك ينسون سوء حالهم، ويتفننون بذكر محاسن مواتهم، ينتفضون لأوطانهم ببضع أوراق، وببضعة أسطر، وبأصوات لا تسمعها الا آذانهم وحدهم، ويحبون أنفسهم بأن يكرهوا غيرهم، وتستفزهم تواريخ نكباتهم أكثر من نكباتهم ذاتها، ويمعنون النظر في لوحات بيوتهم، دون أن يفتحوا نوافذهم لرؤية ما يحيط بهم. العاطفة العربية: أنت تطلب مني المستحيل، كيف نحيا بلا ضحكات وبلا دموع، وكيف نسير بلا روحٍ تشعلها الشموع!، ماذا سنفعل إن كثرت المهالك وتعرّجت المسالك!، ثم تنسى أنك نفسك قد بقيت لعقود طويلة خالي الوفاض، ارتضيت الغياب وتناسيت حاجة الأحباب، هزمك رجل السياسة مثلما هزمك رجل الدين، أنت مجرد مقاتل مهزوم وأنا مجرد أقوم بلملمة ما تبقى من الأشلاء! العقل العربي: حاولت كثيرا أن أنطلق في رحابة هذا الكون، أردت أن أكون كغيري محلقاً ونابغاً، ولكن كيف سأحلّق وأنا حبيسك أنتِ، أفتقد حريتي في نصف يومي، وأبحث عن لقمة عيشي في نصفه الآخر! العاطفة العربية: قد أتفهّم ذلك أو أحاول، ولكن دعنا نتذكر أحد الذين تحدثوا عنك وعنّي، قال إننا سكان النفس وشراعها، هذه النفس السائرة في بحر هذا العالم دون أن تتوقف! العقل العربي: أستميحك عذراً، فلا بدّ أن أرحل الآن. العاطفة العربية: أن ترحل !.......حسناً...ولكن صدقني سأبقى بانتظارك.