} تنشر مقالات الدكتور الأنصاري هذه، كل اثنين وخميس على الرغم مما يعرفه الجميع عن الصراع السياسي الذي حدث بين عبدالناصر والقيادة السعودية، فقد استطاع الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز في موقف تجرد ان يسجل هذه الشهادة للتاريخ في "مقاتل من الصحراء": "كان لعبدالناصر تحدياته الأيديولوجية أيضاً. كان بطلاً نتطلع اليه ويحبه الأمراء الصغار بلا استثناء حباً جماً الى درجة أن الخلاف كان ينشب بيننا اذا قال أحدنا أنه اشدنا حباً له. كنا جميعاً ناصريين، كما كان أكثر العرب كذلك. كان هذا الاتجاه واضحاً في عائلتي. كان أبي وأعمامي معجبين بعبدالناصر وتستهويهم خطبه وأفكاره، تجد صورته على الجدران وسيرته على كل لسان أينما وليت وجهك" - مقاتل من الصحراء"،1995، دار الساقي، ص81. وصحيح إنه قد سجل أيضاً تغير نظرة القيادة السعودية ورجالها اليه: "من النقيض الى النقيض، فبعد ان كان بطلاً في الخمسينات أصبح خطراً في الستينات على الأقل في نظرتنا اليه"، وذلك مع اشتداد حرب اليمن وازدياد تحدي الناصرية في أنحاء الجزيرة العربية، فإن هذا الاختلاف في السياسة لا يغير من حقيقة تناغم الوجدان العربي الذي يعبّر عنه خالد بن سلطان في لحظة تجرد تاريخي بين تراث القائد الموحد عبدالعزيز آل سعود وتراث المناضل للوحدة جمال عبدالناصر على رغم الاختلاف الكبير في النظم والمواقع والمصالح، بما يوحي ان حنين العرب - على اختلافهم - الى التقارب المشترك في ما بينهم ليس أمراً عابراً، وأنه لا يمكن الغاؤه بجرة قلم في ذيل معاهدات التصالح في ما يسميه شمعون بيريز - بين آخرين - "الشرق الأوسط الجديد". ولعل الكاتب السعودي أنور عبدالمجيد الجبرتي كان من أصدق وأوجز من عبروا اخيراً 1999 عن مشاعر جيله الذي تفتح وعيه مع بدايات الحركة الناصرية عندما كتب: "يظل عبدالناصر عند كثير من ذلك الجيل مثل الحب الأول. يبقى ذلك الحب الأول دفيناً، متربصاً في أعماقنا، ويظل نظيفاً وطازجاً في ذاكرتنا". ويضيف: "لم يكن عبدالناصر مذهباً في السياسة أو فلسفة الحكم، ولم يكن عبدالناصر ايديولوجية أو نظرية. كان عبدالناصر زماناً وكان عاطفة، وكان شم النسيم. كان رائحة الأم بين لفافات الطفولة وكان نكهة الطزاجة بين زخات المطر، وكان انتشاء الوجد الصوفي في زحمة الدراويش والمريدين. لذلك يظلمون عبدالناصر عندما يدافعون بغباء عن أخطاء عهده، وتجاوزاته وتناقضاته وانتكاساته، ويظلمونه عندما يهاجمون تلك الأخطاء والتجاوزات، لأن عبدالناصر كان رجلاً لا بد أن يأتي، وزماناً لا بد أن يحدث، مثل قطرات الندى عند الفجر. ونحن لا نحاكم ولا نقاضي الفجر أو المساء ولا نلقي القبض على قطرات الندى. لقد كنا جميعاً هناك شهدنا الفجر، وشاهدنا المساء واصطلينا بالقيظ عند الظهيرة. نحن كنا عهد عبدالناصر وزمانه، وانعكاسات مرآته، وصدى صوته...". "الحياة" 31 كانون الثاني/ يناير 1999م. وبما يتعدى رومانسية الجيل الناصري، يقول الكاتب المصري صلاح عيسى وهو يساري سابق ممن دخلوا سجون عبدالناصر في ملمح يتفق معه فيه الكثيرون من المنصفين: "القول بأن عبدالناصر كان "جلاداً وطاغية" هو اختصار مخل لظاهرة معقدة لا جدال في أنها - في الحكم النهائي عليها - واحدة من أكثر ظواهر التاريخ العربي الحديث ايجابية. لكن المبالغة في سمة واحدة من سمات الظاهرة، تدعو للشك في من يسوقون هذا التقييم، وهم في الأغلب الأعم من خصومه الطبقيين والسياسيين... "صلاح عيسى، "مثقفون وعسكر"، منشورات مدبولي - القاهرة 1986، ص548. وتشير الكاتبة المصرية لطيفة الزيات من واقع التجربة الثقافية المصرية: "في فترة عبدالناصر "الطاغية الباغية"، كما يسمونه الآن، استطاع نجيب محفوظ ان يكتب "ميرامار" بما يحويه من نقد لاذع، استطاع أن يكتب "ثرثرة فوق النيل"، استطاع ان يكتب "أولاد حارتنا"، استطاع ان يكتب هذه السلسلة من الانتقادات المريرة، فأي كاتب استطاع ان ينقد أسلوب السادات؟". "الثقافة والمثقف في الوطن العربي"، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت ص107 حيث أورد النص الباحث ابراهيم محمود. وهذا الملحظ أكده نجيب محفوظ نفسه في لحظة مكاشفة 1990/1991 استطاع أن يقول فيها الكثير: "استطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير انني قلت كل ما أريد قوله في أعمالي الروائية، وعبّرت عن كل آرائي خلال فترة حكم عبدالناصر، والرأي الذي لم استطع المجاهرة به، أوصلته للناس عن طريق الرمز". أنظر رجاء النقاش، "نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته".... إلا انه بما يتعدى هذا الاعتبار في خصوصيته، فإن المضمون الفكري المحايد لنقد الديكتاتور والديكتاتورية وفي ضوء ما حدث للعرب من مضاعفات في الثلث الأخير من هذا القرن بعد غياب عبدالناصر، واستنساخ ديكتاتوريات عربية اخرى طمحت بالتقليد الفج التطاول الى "نموذجه" ولم تقدم غير النكبات والمزيد من الهزائم، نقول في ضوء هذا كله فإن الموقف الفكري العربي اليوم من الديكتاتورية والديكتاتور الفرد بعامة إن لم يتقبل لغة عبدالله القصيمي في ما يخص عبدالناصر- فانه لا يستطيع نفي موقفه من حيث المبدأ، من الظاهرة في جوهرها، أو من النماذج الديكتاتورية المشخصة الأخرى في العالم العربي. والقصيمي بنقده هذا يكون قد قارب مستوى عبدالرحمن الكواكبي في نقده اللاذع للاستبداد قبل قرن من الزمن. واذا كان عبدالله القصيمي استطاع ان يكتب هذا النقد الصريح للحاكم الفرد وينشره في بيروت، فإن نجيب محفوظ قد أوحى بالفكرة ذاتها فنياً ورمزياً في روايته "ثرثرة فوق النيل" 1966 الصادرة في مصر قبل الهزيمة ببضعة أشهر: "أيها الحكيم القديم ايبو - ور... حدثني ماذا قلت للفرعون؟". "أقبل الحكيم ينشد: إن ندماءك قد كذبوا عليك. هذه سنوات حرب وبلاء. ما هذا الذي حدث في مصر؟ إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه. إن من كان لا يمتلك أضحى الآن من الأثرياء. يا ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت... لديك الحكمة والبصيرة والعدالة. لكنك تترك الفساد ينهش البلاد. أنظر كيف تمتهن أوامرك. وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة؟". وكما ألمح نجيب محفوظ في ما بعد فإن الثورة في عهد عبدالناصر أفسحت حرية نسبية للأدب كي يعبر رمزياً عن بعض المحظور، بينما وجهت الفكر توجيهاً تاماً تحت سيطرتها. وتبدو الاشارة أعلاه الى انتشار الفساد في ظل الفرعون الذي يمتلك العدالة والحكمة من "اللمح" التي استطاع نجيب محفوظ "تمريرها" في تلك المرحلة الحرجة من احتقان الثورة ووصولها الى الطريق المسدود في عام القلق 1966 الذي سبق عام الهزيمة 1967 في ذلك العام القلق ذاته أصدر توفيق الحكيم مسرحيته السلطان الحائر التي لمحت من بعيد الى حيرة السلطة الثورية الحاكمة في ذلك الوقت بين شرعة القانون وغريزة السلطة، وإن يكن الكاتب قد احترز لنفسه بالقول في مقدمة تلك المسرحية إنها تمثل حيرة القوى الكبرى في مجلس الأمن بين احترام القانون الدولي أو اللجوء الى القوة العارية... لكنها مسرحية تقرأ من عنوانها السلطان الحائر، وإن يكن سلطاناً ثورياً هذه المرة!! وليس من الصعب أن ندرك ان العبارة التالية في هذا الكتاب: "ان السيف يفرضك، ولكنه يعرضك. أما القانون فهو يحرجك لكنه يحكميك". عبارة موجهة الى النظام القائم في مصر 1966 أكثر مما هي مرسلة الى ... مجلس الأمن الدولي! من خليل حاوي وأمل دنقل الشعر، الى عبدالله القصيمي الفكر، الى نجيب محفوظ الرواية، الى توفيق الحكيم المسرحية جاءت مثل هذه النماذج - ظاهرة أو مبطنة - لتعبر عن شعور عدد من كبار المثقفين العرب بالقلق والحيرة والاحباط في السنوات القليلة التي سبقت الهزيمة وتلت التراجعات الثورية المبكرة منذ الانفصال 1961. غير ان هذه الاشارات والارهاصات على أهميتها وصدقها كانت من القلة أو الخفوت أو التخفي والتقية بحيث يصعب القول إنها مثلت نذيراً مسموعاً باحتمال الهزيمة لدى القيادات أو الجماهير العربية التي كانت - وما تزال - تضيق ذرعاً بالحديث عن جوانب الضعف والتخلف في الذات العربية - وإن يكن حديثاً حقيقياً ومخلصاً - كما تضيق بالتقويم الموضوعي لقوة الخصم وجوانب تفوقه بالمقابل. لذا جاءت هزيمة حزيران يونيو 1967 بمثابة الصدمة و"الرضة" النفسية غير المتوقعة، إذْ كانت مسبوقة - حسب تعبير جورج طرابيشي - بشعور عارم بالثقة بالذات، وبمغالاة في تقويم قوة الذات، وبالوهم المرفوع الى درجة اليقين بأن شيئاً من ذلك القبيل لا يمكن ان يحدث: ليس لذاتي أنا..." - طرابيشي، "المثقفون العرب والتراث"، ص22. ولهذا الاعتبار، فإن الهزيمة في الأسابيع والشهور الأولى لم يتم استيعابها بأبعادها الكاملة وأطلق عليها الخطاب الثوري الرسمي مصطلح "النكسة"، بينما انكرت وقوعها صحيفة "الحرية" الناطقة باسم حركة "القوميين العرب" الناصرية في بيروت بعد ان احتجبت عن الصدور لثلاثة أسابيع بعد وقوعها ثم عادت بعد ذلك بمانشيت يقول كلا لم ينهزم العرب... ولم ينهزم عبدالناصر. ورأى نديم البيطار - وهو مفكر وحدوي علمي وعلماني - في كتابه "من النكسة الى "ثورة" 1968 ان ما حدث في حزيران 1967 هو مجرد نكسة على رغم الألم العميق الذي احدثته، وأعلن "مرحى بالنكسة، ومرحى بتحدياتها الكبيرة". غير انه بمرور الزمن، واستمرار وضعية الهزيمة على المدى المتصل - على رغم نفحات وبطولات حرب تشرين الأول اكتوبر 1973- صار يزداد الاقتناع "بأن هزيمة 1967 كانت هزيمة لعمارة المجتمع العربي ولبنيته المادية والعقلية معاً، هزيمة كشافة لتأخره السياسي والاقتصادي والتقني والثقافي، فضلاً عن تأخره العسكري... "وأنه صار من الواقعية التأمل في التفسير "المجتمعي الكلي" الذي ذهب اليه ياسين الحافظ في كتابه الهزيمة والايديولوجيا المهزومة حيث أشار: "المعنى العميق لحرب الأيام الستة يتجاوز بكثير معنى الهزيمة العسكرية". وعلى العصيد الفني، عبّر تلفزيوني عربي عن هذا الاستبصار الاسترجاعي لحقيقة المجتمع العربي عندما قال عن مسلسل أخرجه: "مفاجأة المسلسل طرح السؤال: هل نحن هزمنا في 1967، أم كنا مهزومين من قبل؟ أعتقد أن السؤال خطير وكبير، ولا استطيع الإجابة عليه بالضبط، ولكنني استطيع ان اقدم واقعاً، وأسلط عليه الأضواء، وأرصد حركة المجتمع في ذلك الوقت... ويبقى للمشاهد الحكم في النهاية، اذا كان المجتمع قد أتته الهزيمة من الخارج أم كان مهزوماً من الداخل قبل أن تأتيه الهزيمة العسكرية" - المخرج السوري علاء الدين كوكش عن مسلسله "حي المزار" "القدس العربي" 24/11/98م. هذا لا يعني ان الهزيمة قدر مقدر على الأمة، لكنه يعني ان تجاوزها يتطلب مواجهة طويلة الأمد لعوامل الضعف والتأخر في التكوين العربي المجتمعي الشامل في ظل مشروع حضاري جديد. وما لم يتم الشروع في تحرك وفي مشروع كهذا، فإن الهزيمة لا يمكن تجاوز "آثارها" لا بالحرب ولا بالسلم، لأن الحالتين تعبير عن توازن القوة بمدلولها الشامل على الأرض، وما لم يحدث "تقدم" نحو امتلاك مثل هذه "القوة" الفاعلة فإنه لا يمكن تجاوز الأزمة المستعصية لا حرباً ولا سلماً، لأن حرب الضعيف وسلامه سيان، فالحرب حرب الأقوياء والسلام بالدرجة ذاتها سلام الأقوياء. فقد وقعت نكبة فلسطين عام 1948 والمجتمعات العربية في لحظة تاريخية حرجة كانت أثناءها أحوج ما تكون الى الاستقرار لمواصلة مسيرة التنمية والتطور والتحديث، فأصابت النكبة تطور هذه المجتمعات في مقتل، وذلك بما جلبته مضاعفاتها من عدم استقرار وتقلبات وانقلابات وانجراف نحو التسييس الانفعالي والايديولوجي قبل أوان النضج وقبل بلوغ سن الرشد السياسي الذي لا يبلغه أي مجتمع الا عندما يجتاز الحد الأدنى من بناء المجتمع المدني/ الوطني القائم على اندماج العناصر السكانية في بنية مدينية تتجاوز البنى التقليدية من طائفية وعشائرية. هكذا أجهضت تفاعلات النكبة في العمق العربي التكون الجنيني للمجتمع التعددي الليبرالي والتوجهات الديموقراطية المدنية التي تنامت منذ بدايات القرن واكتسبت الانقلابات العسكرية "شرعية" جماهيرية وتم الاندفاع نحو "عسكرة" المجتمعات العربية و"أدلجتها" عن طريق الحركات الشمولية الكلية ذات النهج شبه الفاشي، وتم الإجهاز على التراكم التحضري والتعليمي التعددي المتفتح الذي شهدته المجتمعات العربية - قبل النكبة - في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين. ولكن لا بد من التنبه في الوقت ذاته ان الأنظمة التقليدية ذات الواجهات الدستورية والبرلمانية تركت الفساد ينهشها كالنظامين الملكيين في كل من مصر والعراق ولم تصلح من نفسها الأمر الذي عجل بنهايتها واجهاض بذورها الليبرالية بُعيد النكبة وتفاعلاتها. ولو انها حرصت على اصلاح نفسها قبل فوات الأوان لربما أمكنها قيادة عجلة التنمية بتدرج طبيعي كان لا بد منه ولا يمكن حرق مراحله بالانقلابات الفجائية وطفراتها. ففي مجتمعات عربية تقليدية ذات تشكيلات مجتمعية متخلفة تركيباً وقيماً وثقافة وانتاجاً، كانت الأولوية للتنمية والتطوير والتحديث في ظل أوضاع مستقرة نسبياً تساعد على التراكم الحضاري واستيعاب المتطلبات الأساسية للعصر الحديث من دينامية اجتماعية وتطور سياسي وانتاجية اقتصادية عن طريق استيعاب العلم والتقنية والتفكير العلمي، التحليلي والنقدي. لخلفيات هذه المسألة يُراجع كتاب المؤلف: "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية" وغيره من مؤلفاته في هذا الموضوع. غير انه في ظل الأوضاع المتوترة التي أحدثتها تفاعلات النكبة في صميم المجتمعات العربية تمت التضحية بتلك الحاجة المصيرية التطويرية فلم تعد لها الأولوية، بل صارت في درجة ثانوية إن لم يتم التغافل عنها، وأصبحت الأولوية القصوى للتعبئة العسكرية والاحتشاد السياسي الآني والمرحلي، وتم القفز على أوجه القصور الذاتي في المستويات الحضارية والانتاجية والعلمية والفكرية للمجتمعات العربية، وسيطرت - الى حد الهاجس العصابي المتضخم - فكرة المؤامرة "الامبريالية - الصهيونية" التي لا تُنكر بطبيعة الحال، ولكن ما كان لها أن تحدث آثارها المتفاقمة الى اليوم، لولا القابلية العربية الذاتية لمفعولها المدمر في معظم البنى المجتمعية - السياسية العامة سواء على صعيد السلطات أو المعارضات وعلى الصعد الرسمية أو الشعبية. وبذلك تحولت المعركة من المعركة ضد التخلف الى المعركة ضد وجه من أوجه ذلك التخلف وعرض من أعراضه، أعني: تمكّن القوى الصهيونية والقوى الاستعمارية المساندة لها من اقامة اسرائيل على أرض فلسطين وفي القلب من الوطن العربي. وجاءت هزيمة الخامس من حزيران 1967 لتقدم الدليل على أن المعركة في أساسها وعلى المدى الطويل معركة حضارية لا مفر منها... مثلما هي معركة سياسية وعسكرية، وكان لا بد من الموازنة بين الجانبين وعدم التضحية بالجانب الأساسي الأكثر أهمية. وأياً كانت التفسيرات المتعلقة بالسياسات و"المؤتمرات الدولية" أو الاعتبارات العسكرية، أو الخيانات الداخلية، فما كان لإسرائيل ان تقوم وتبقى لولا الدرجة الخطيرة من "التخلف" الذي عانته وتعانيه مجتمعاتنا العربية: اجتماعياً وسياسياً وعلمياً وانتاجياً. ومن المفيد الرجوع الى دراسة موثقة ودالة أجراها المفكر الفلسطيني الكبير الدكتور وليد الخالدي وأبان فيها أن من كنا نسميهم عام 1948 "العصابات الصهيونية" كانوا من الناحية العسكرية أفضل تنظيماً وتدريباً من القوات العربية المسلحة. نعم "التخلف"، ولنسم الأشياء بأسمائها. التخلف الحضاري عن مقتضيات العصر بجميع متطلباته الأساسية، حريةً وتنظيماً وتفكيراً وانتاجاً وقوة: هذه هي "قضية العرب الأولى"، ودعونا من التذرع بمحاججة نظرية "المركزية الأوروبية" التي يتصدى لها بعض المثقفين العرب كلامياً ليتهربوا من مقولة التخلف بحجة ان التخلف مجرد "إسقاط" أوروبي على المجتمعات الأخرى. ثمة تقدم وثمة تخلف في العالم كله. والفيصل في ذلك معايير موضوعية في العلم والانتاج ومستوى التحضر والتحرر الفكري والسياسي. فالتخلف إذن هو نكبة العرب الكبرى. وما ضياع فلسطين والاستهتار الاسرائيلي الراهن بالحقوق والمشاعر العربية، إلا عرض من أعراض هذه النكبة، لكنه ليس العرض الوحيد اذا أخذنا في الاعتبار المعاناة الشديدة التي تمر بها اليوم مجتمعات عربية عدة، وهي معاناة تتراوح بين الخضوع لأشد النظم ديكتاتورية وشمولية في حالات، الى التعرض لأبشع المجازر من جهات "معارضة" في حالات أخرى، الى البقاء في ممارسات العصور الوسطى في كثير من الممارسات حيال المرأة والمواطن و"الآخر" وحيال قيم العمل والتنظيم والوقت في أغلب الأحوال... من المحيط الى الخليج! ولا يوجد حل سحري للخروج من هذا المأزق التاريخي، الا بالعودة الى استئناف مسيرة التطور الحضاري الشامل، بمشروع نهضوي متكامل، وبنفس طويل، لا يحرق المراحل، ولا يحرق نفسه بالطفرات والمغامرات والحلول المرتجلة الآنية... سلماً أو حرباً. ولن يحدث هذا الا بتحرير الوعي العربي الاسلامي العام من كثير من الأوهام والتطورات المغلوطة واعادة تأسيسه على التفكير المستقل، الناقد، الحر، المنفتح لكل معطيات الحقيقة، أياً كانت، حيث لا يصح الا الصحيح. بعد هزيمة حزيران، من الدروس المستفادة، وخصوصاً في مصر العربية جبهة العرب الأولى والكبرى - كان التنبه كما وثق ذلك محمد حسنين هيكل انه لا يمكن خوض حرب عصرية بجنود وضباط ينتمون الى تشكيلات مجتمعية تقليدية متخلفة. فالحرب التكنولوجية الحديثة تحتاج الى كوادر متعلمة، متدربة، واعية من صميم المجتمع المدني المتحضر. وهكذا كان بالنسبة للاعداد لحرب أكتوبر و"ملحمة العبور". وأثبت الفرد العربي المتعلم والمدرب كفاءته العالية في الحرب الحديثة. وفي حدود المعطيات الوضعية المحيطة بحرب أكتوبر، وبغض النظر عن أية انتكاسات سياسية ومداخلات دولية، فإن الاداء الحضاري للجندي المصري والعربي سيبقى نبراساً يقدم لنا اشارة واضحة ومضيئة نحو الاتجاه الصحيح الذي علينا أن نسلكه من جديد... ليس في ميدان القتال فحسب، - فهذا سيأتي في أوانه - لكن في ميدان الحياة وفي معركة الحضارة قبل كل شيء..." معركة الحضارة" 1965 التي اعتبرها قسطنطين زريق أم المعارك... الحقيقية! هكذا فإذا كانت قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى فإن التخلف العربي الراهن هو نكبة العرب الأولى، وأي محاولة لإنكاره، بأي عذر من الأعذار والمبررات، لن تؤدي بنا الا الى المزيد من الضياع، بل الى فقدان الوجود والحضور في هذا العصر. وأية دولة... أو حركة دينية كانت، أو قومية، أو وطنية لا تضع "التخلف" ومعالجته في سلم أولوياتها وفي صميم مشروعها السياسي، لن تجلب لنفسها ولأمتها غير المزيد من النكبات. لعل هذا أخطر درس أمام العرب وهم يدخلون الألفية الثالثة ... أنظر مداخلة الكاتب في مجلة "العربي" عدد تشرين الثاني / نوفمبر 1998. ولعل من أوجز ما قيل تعبيراً عن هذا المأزق التاريخي العربي - على صعيد الوعي والواقع على السواء - ما أورده فهمي هويدي في مطلع احد مقالاته 1998: "اذا كان التخلف كارثة، فالكارثة الأعظم الا ندرك اننا متخلفون...". واذا كان ذلك يؤشر الى وعي مختلف، فإن صدوره من كاتب اسلامي ملتزم، بالذات، يطرح السؤال ان كانت الحركة الاسلامية اجحمالاً تستطيع ان تتحول من التغني بأمجاد الماضي الى معالجة حقيقية لأوضاع الحاضر، بلا مخادعة للنفس. * كاتب وأكاديمي ووزير بحريني سابق.