خمسون عاماً انقضت ولا نزال ندحرج صخرة سيزيف من اجل التوصل الى "معنىً للنكبة". تناقلت المهمة حركة بعد اخرى، ما ان صرخت في وجوهنا "وجدتها... وجدتها!" حتى اندثرت يرافقها رجع الصدى. وبعد النكبة جاءت "النكسة"، ثم جاء الانتكاس المستمر الى العناوين التي تبدأ بكلمة "ازمة" وتنتهي بسؤال "الى أين؟". يذكر هذا الانشغال بسؤال التنوير العربي الذي لا جواب له "لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟" فالعوامل التاريخية غير متناهية، وسؤال "لماذا؟" التاريخي لا إجابة عنه شافية، ومن الأفضل التركيز في اسئلة مثل: ماذا علينا ان نفعل؟ وكيف نتقدم نحو الهدف المحدد في السؤال الأول؟ بحثنا عن الخيار القومي العربي ليس لذاته بل كأداة في مواجهة كارثة النكبة، وعن الخيار الديموقراطي ليس لذاته بل لمواجهة تحدي النكسة، وحتى الخيار الديني لم يسلم من اعتبار ذاته الطريق الوحيد لمواجهة سلسلة النكبات والنكسات. اعتبر الموضوع مسألة تحد وكرامة، ولذلك طرحت الخيارات السياسية والثقافية كأنها مجرد ادوات في مواجهة التحدي. تغيرت تفسيرات "معنى النكبة" وتطلّب التغيير تغييراً في الوسائل، ولكن التحدي بقي هو ذاته لا يتغير، ثابتاً قدرياً ازلياً وهازئاً باختلاف الادوات التي تهزم في مجتمعاتها ذاتها قبل ان تجرب عليه. لم يخطر بالبال ان اسرائيل لم تطور خيارها القومي كأسلوب في مواجهة العرب بل من اجله ومن اجل ذاتها، لأنه الطريق الوحد لتنظيم الدولة الحديثة. لقد كان الخيار القومي هدفاً بالنسبة الى الحركة الصهيونية. وغاب عن البال ان اسرائيل لم تعتمد قواعد اللعبة الديموقراطية وسيادة القانون داخلياً لأنها افضل الادوات في مواجهة العرب، بل من اجل ذاتها، لأن الديموقراطية، كخيار سياسي - ثقافي وكعلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، هي قرار وطريق تختاره النخبة السياسية الثقافية لنوع الانسان الذي تريده والمجتمع الذي تبغيه. علينا ان نسأل اذاً عن معنى غياب الخيار القومي، وعن معنى غياب الديموقراطية وسيادة القانون، وعن معنى كرامة الانسان والمواطن في مثل هذه الحالة. علينا ان نسأل عن معنى الرشوة والفساد وتناقضهما مع الحداثة والتحديث ومع مبدأ الانسان المناسب في المكان المناسب ومع عملية اتخاذ القرار بناء على اعتبارات في الموضوع وليس خارج الموضوع - علينا ان نسأل هذه الاسئلة ليس كاشتقاقات من الصراع مع اسرائيل او كأسباب للنكبة بل نسألها لذاتها ولذاتنا - حتى لو كانت هنالك علاقة تاريخية بين الموضوعين يجب الفصل بينهما بنيوياً لكي تتغير العلاقة الأداتية مع هذه المواضيع. وبعد ان يصبح حضور هذه حاجة ويتم التساؤل عنها، نتوسل وسائل استحضارها. عندها فقط يصبح السؤال عن معنى النكبة مشتقاً من حاجات المجتمع العربي المعاصر وامكاناته وضروراته. سؤال المنكوبين عن معنى لنكبتهم يذكر بتساؤل اصدقاء المتوفي المذهولين وقد تحلقوا في بيت العزاء عن معنى وفاته، ولماذا هو بالذات، ولماذا لم يستمع للنصيحة ويقلع عن التدخين، الى ان تأتيهم ملاحظة احد المتذاكين عادة في مثل هذه المناسبات عن صديق له يدخن ولم يمت حتى اليوم، مفتتحاً بذلك سلسلة من التفسيرات لمعنى الموت لا تنتهي الا باعلانات مثل "تعددت الاسباب والموت واحد" و"هذا قدر الله لا رادّ له"، عندها يصبح تفسير النكبة ندباً. لم تكن نكبة فلسطين موتاً او قدراً محتوماً بالطبع، ولكن لا معنى لاشتقاق مهمات المجتمع العربي من معناها المزعوم، فنحن لا نعيش لكي نواجه الموت بل نعيش لأننا نفترض ان للحياة معنى، وإذا كان للموت معنى فهو مشتق من فقدان معنى الحياة. النكبة كسر في التاريخ الفلسطيني الحديث، ولا يوجد تاريخ فلسطيني غير حديث، فقد اقتلع المجتمع الفلسطيني من الساحل الفلسطيني، وهدمت المدينةالفلسطينية، وهدم معها حلم ما بين الحربين العالميتين، حلم النخب العربية والطبقات الوسطى ببناء الوطن العربي المستقل واللحاق بالحداثة، وفقد الفلاح الفلسطيني الذي كان يصارع طبيعة البلاد بمعوله من خلال الانسجام معها، فقد هذا الصراع، وبعدما كانت احلامه الصغيرة مغزولة بعبق المكان ورياحينه وبتسكع الزمان المتثاقل كناعورة تديرها الطقوس الموسمية، باتت احلامه سياسية ومرهونة بإرادة السياسيين وموازين القوى والقرارات الدولية، وأصبحت طقوسه مؤتمرات موسمية تدعو للعودة وراديو "ترانزستور" يعده بالتحرير، وأصبح عبق المكان نوستالجياً. والنكبة كسر في التاريخ العربي الحديث، لأنه بات بعد النكبة تداعيات من ردود الفعل عليها احتلت فيها جدلية العلاقة مع الخصم، مع العدو، مكان جدليته الداخلية. صعق العرب بما حصل ولكن الانصعاق المشترك كان بداية العروبة الحديثة، عروبة الانظمة، خلافاً لعروبة الفكر والحركة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. واعتبروا ما حصل معهم زلة وهفوة من هفوات الزمان، وكذبة مزعومة على وزن دولة اسرائيل المزعومة. انسحب الفلسطينيون من المكان الى الزمان العربي المأمول، هجروا وشردوا من اربعمئة وثمانية عشر مكاناً، كانت قبل الشتات منشغلة في توحيد أزمتها الريفية المختلفة في زمان قومي واحد يعكس في مرآة الانتداب، هجروا وشردوا الى مدن غربية لم تستوعبهم لأنها لم تستوعب ذاتها بعد، فشكلوا احزمة من الخيام تحولت الى احزمة من احياء الفقر المشتركة لهم وللمهاجرين من الريف، ولأن الاماكن العربية الجديدة لم تتوحد في زمان قومي واحد سرعان ما عاد الوافد الفلسطيني المرحب به غريباً في المكان مرفوضاً كما ترفض المغتصبة رغم الظلم الذي لحق بها، لأن الشعور بالعار اقوى من الشعور بالشفقة. ولكن الفلسطيني بقي ضيفاً مرحباً به في الايديولوجيا، وما لبث ان فهم ذلك فاستوطنها حصناً منيعاً ولو كان الثمن المشاركة في تزييف وتقنيع الواقع المر. الأيديولوجيا ملاذ أمين عند انظمة عربية اذا عادت نظاماً آخر راحت تعادي مواطنيه كأنهم رهائن. وكيف تعادي مواطني البلد العربي غير المرغوبين؟ بالاساليب البائسة المتوفرة في جعبتها، بالبهدلة على الحدود. الحالة الفلسطينية بعد النكبة هي حالة جيل كامل "تبهدل" على الحدود العربية. انه جيل كان يستخدم كلمة النكبة عندما تنفق بقرة او يموت حصان، فيقولون "فلان انتكب" لأن بقرته ماتت. هذا الجيل اضطر أن يستوعب فجأة نكبة حقيقية لم يحلم بها. نكبة فقدان الوطن او البلد، كان ذلك بمفهوم القرية الضيق او مفهوم الوطن السياسي، نكبة الغربة والسير على الإقدام مسافات لم يحلم بقطعها في البحث عن مأوى الى ان تنجلي العاصفة كما وعدوه. لا يمكن نسيان النكبة لأنها حوّلت التاريخ العربي وتاريخ العربي عن مساره. ونجد انفسنا بعد خمسين عاماً من المأساة الفلسطينية المستمرة والتأسي العربي، نحذر من اعتبار النكبة حالة من فقدان الذكورية العربية، تقمع ذاكرتها وتكنس الى اللاوعي متحولة الى هستيريا جماعية تارة مع الفلسطينيين وطوراً ضدهم، مرة باعتبارهم سبب البلاء 1948، ومرة باعتبارهم اعادوا للأمة كرامتها 1967. ولذلك نجدنا نحذر من قلب ذاكرة النكبة الى علاج نفسي جماعي يبحث في لاوعي الأمة. تفقد الذاكرة في مثل هذه الحالة دورها ووظيفتها في مواجهة ما حلّ بالعرب من تعثر في مسيرة حداثتهم، لا يمكن نسيان النكبة لأنها حولت القومية من خيار قومي هادئ يسعى الى توحيد ابناء ذات اللغة وذات التاريخ وذات الحلم الحديث بالسيادة الى خيار ايديولوجي متشنج يزيد الايديولوجيا تطرفاً كلما ازداد القصور في الواقع. ليست ذكرى النكبة احياءً لفردوس مفقود موهوم كان قبل النكبة، هذه ذاكرة ميثولوجية تجعل من النكبة انتصاراً فجائياً للشر في صراعه مع الخير، وكارثة طبيعية حلت كلعنة على هذا الفردوس. كانت فلسطين، مثلما كانت كل بلاد الشام وبلاد العرب، تستيقظ على الحداثة وتتعرف على اولياتها بواسطة المستعمر ومؤسساته والتعليم الحديث وبعض التكنولوجيا الواردة. وكانت فلسطين تشيّد مدينتها، ولكن سوادها الاعظم كان مدينياً بسيطاً معدماً يفتقر الى التواصل مع بعضه. ما كان بوسع حالة ما قبل النكبة ان تبدأ بفهم النكبة، ناهيك عن اسبابها الأوروبية والدولية - ومن الظلم تقويم رفضها او قبولها لقرار التقسيم في حينه. وعندما حلّت النكبة، اي عندما اعلن قادة اليشوف اليهودي استقلال اسرائيل وباشروا باحتلال اجزاء فلسطين التي خصصت للدولة العربية، كانت القدرة الفلسطينية على المقاومة قد استنزفت تماماً في انتفاضة 36 - 39. ومع ذلك قاوم الفلسطينيون بما اوتوا من عدد وعدة. ولكن لا هم فهموا ولا الانظمة العربية المحيطة فهمت حجم وقوة المشروع الصهيوني الذي دفع الى المعركة بقوة أكبر من المقاتلين لا من حيث العدة فحسب بل من حيث العدد ايضاً، وأقصد قوة اكبر من مختلف "الجيوش" العربية التي دخلت فلسطين عام 1948. لقد هزمت الأنظمة لانها لم تشارك فعلاً او شاركت محكومة بصراعاتها ومؤامراتها، وهزم الفلسطينيون لأنهم اساؤوا التقدير والتوقيت - وانتصرت اسرائيل لأسباب ثلاثة نختارها من قائمة لا نهائية من اسباب الظاهرة التاريخية: 1- لأن المشروع الصهيوني ارتبط بالمشروع الاستعماري وتم تبنيه من بين مهمات الانتداب البريطاني على فلسطين. 2- لأن موجات العداء للسامية اتخذت في أوروبا شكلاً لا سابق له هو شكل المحرقة النازية والابادة الجماعية. 3- لأن القيادة الصهيونية نجحت في بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية في ظل الانتداب، ولأنها كانت قيادة براغماتية وعقلانية تحسن التوقيت، والتقدير للقوة الذاتية ولقوة الخصم. لقد بدأت الذاكرة العربية للنكبة بإنكار هذه الاسباب واستنكارها بدلاً من مواجهتها، هكذا تراوح التفنيد الأول بين الادعاء ان بريطانيا لم تفهم مصلحتها الحقيقية، وبين الادعاء ان النكبة هي نتاج مؤامرة بريطانية - صهيونية - رجعية عربية. وتخبطت العلاقة مع السبب الثاني، اي العداء للسامية في أوروبا، بين انكاره واعتباره افتراء صهيونياً وبين التقليل من حجم وأهمية المحرقة النازية ومقارنتها غير المبررة وغير المفهومة مع النكبة الفلسطينية. وذهب بعضنا في ساعة غضب الى الهذر بأن اليهود يستحقون ما يحل بهم اينما حلّوا. لقد تخبط العرب في التعامل مع وصمة عار في جبين أوروبا والحضارة الغربية لا ناقة لهم فيها ولا بعير، ولم يكن الاعتراف بالواقع في أوروبا ليضيرهم بشيء، فهذا الواقع لا يبرر اخلاقياً اقتلاع شعب آخر خارج اوروبا، وانكاره لا يمنع من اضافته سبباً الى اسباب النكبة لأن الصهيونية احسنت استخدامه واستخدام الارتباك العربي في التعامل معه. ما أسعد اوروبا بإزاحة عبء الضمير والشعور بالذنب عن كاهلها والقائه على كاهل العرب. اسرائيل تتواطأ مع أوروبا فتريحها من التعامل بجدية مع ماضيها فتفصل بين المسألة اليهودية في حينه ومسألة العنصرية الأوروبية ضد "الاجانب" في حيننا، وأوروبا تتواطأ مع اسرائيل في القاء عبء العداء لليهود على العرب، وتشاركها الاحتفالات بالاستقلال كأنها احتفالات عالمية بتأسيس الأممالمتحدة. والفلسطينيون الذين لا يرون هذا السياق يمارسونه من دون ان يروه اذ يحسبون الاهتمام الدولي بهم اهتماماً بهم حقاً وهو في الواقع اهتمام باسرائيل وبالمسألة اليهودية - وتتحول القضية الفلسطينية الى صناعة عالمية من الندوات والمؤتمرات والابحاث داخل الهوية اليهودية وفي العلاقة اليهودية - الغربية يلعب فيها الفلسطيني دور الكومبارس المرافق من دون ان يدري. ولكن هذه الصناعة باتت تستوعب نخباً عربية وفلسطينية كبيرة نسبياً تعتاش على "القضية". ويرفض بلد عربي استقبال اثنين من اليساريين التقدميين اليهود المعادين للصهيونية بجواز اميركي وآخر مغربي، فاق احدهم في خدمة القضية العربية بكتاباته التي لم يمولها احد عشرات مؤسسات الدعاية العربية التي تبذر الملايين على الندوات والكلام الفارغ وعلى "صناعة القضية" - لقد رفض دخولهما للمشاركة في احياء ذكرى النكبة لأنهما يهوديان. وفي هذا البلد نفسه تتم معاملة الفلسطينيين كما كان يُعامل اليهود في أوروبا القرن الثامن عشر، اذ تتم محاصرتهم في غيتوات ويمنعون من العمل ويفقدون اقامتهم عند السفر. ويصرح رئيس الدولة في ذلك البلد لصحيفة "يديعوت احرونوت" من بين الصحف كافة، ان الفلسطينيين كانوا سبب كل مصائبه. اما المدافعون عن الفلسطينيين وحقوقهم فليسوا بحاجة الى الاختفاء وراء العداء للسامية، فالوطنية ليست ملاذ الانذال. وليس مصير ثالث الاسباب بأفضل من سابقيه، اذ يتم انكاره انكاراً تاماً وكأن الصهيونية لم تكن الا كذبة اخترعها الاستعمار لتكون رأس حربة امبريالية في المنطقة. وما الديموقراطية والمؤسسات الا كذبة دعائية حول واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط. هنا ينتقل العربي الذي يريد ان "يفهم" النكبة فجأة الى اعتبار المؤسسة الصهيونية عجيبة سماوية حقيقية لا بد من الانسحاق امامها وإلغاء الذات، وإذا ما احرج العربي الراغب بالفهم قليلاً اكد لك انه يريد السلام مع اسرائيل حتى بدون تحقيق العدالة للفلسطينيين وللعرب، ليس بسبب اعجابه باسرائيل، بل لأن ما يوحد اسرائيل هو الحرب، ولن يمهل السلام أياً كان هذه الوحدة طويلاً، اذ ان اسرائيل سوف تنهار تحت وطأة خلافاتها الداخلية وتناقضاتها. لم تكن التعددية في الاطار الصهيوني دليل ضعف بل دليل قوة، وتدل قدرة هذه التعددية على تنظيم ذاتها على اساس قواعد لعبة ديموقراطية على وجود ثوابت اجماع قومي تشكل مادة لاصقة للمشروع الصهيوني. والطامة الكبرى ان اولئك الناس الذين وفدوا الى بلادنا لم ينحدروا من قومية واحدة او من ثقافة ديموقراطية في دولهم، ولكنهم نجحوا في تشكيل رابطة قومية تصلح اساساً لتثبيت قواعد لعبة ديموقراطية اهلية لليهود. في حين لا تزال الأمة العربية، بعد خمسين عاماً على النكبة، تخشى احترام قواعد لعبة ديموقراطية مخافة ان يؤدي ذلك الى الانحلال الى فرق وشيع وقبائل وعشائر. لن تفلح ذاكرة النكبة في اقامة نظام مؤسسات وديموقراطية في الوطن العربي ولا في تحقيق وحدة عربية، فالذاكرة التاريخية ايديولوجية تصيغها المصالح المختلفة، والأنظمة وكتب التدريس، وتعيد انتاجها على شكلها وصورتها. لن تندرج هذه المهمات ضمن مواجهة النكبة او النكسة وإنما ضمن مواجهة الديكتاتورية وانعدام سيادة القانون وشخصنة الحياة السياسية. ولن يتم حل هذه المسائل الا اذا تحولت الى اهداف في حد ذاتها. ولكن ذاكرة النكبة ضرورية ضرورة الماء والهواء لهذه الأمة، اذ لا توجد هوية قومية من دون ذاكرة قومية جماعية. والنكبة مثل سايكس - بيكو وحرب حزيران محطات في تشكيل الهوية العربية الجماعية مقابل نقيضها. ولكن النكبة هي المحطة الاكثر اهمية في تشكيل الهوية الفلسطينية الحديثة بايجابياتها وسلبياتها. ولكن لذاكرة النكبة بعداً سياسياً قلما يتم تناوله والتحدث عنه في مرحلة "العملية السلمية"، رغم انه البعد الأهم للعملية السياسية ذاتها. فلا يمكن اعتبار الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة اذا كانت كاملة السيادة - لا يمكن اعتبارها حلاً وسطاً الا اذا اعترف بأن المأساة الفلسطينية لم تبدأ في العام 67 وإنما في العام 48. وحتى الدولة الثنائية القومية هي حل وسط بهذا المنظور، اذ يسبقها الاعتراف بأن هذه البلاد كانت عربية قبل ان تتعرض الى عملية سطو مسلح في وضح نهار القرن العشرين. البدء باحتلال عام 67 يعني ان يكون الحل الوسط اقل من دولة في كامل الضفة الغربية وقطاع غزة وأقل من ايجاد حل لمسألة اللاجئين. والاعتراف بالنكبة، اي الاعتراف بالغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني عام 48، هو شرط البحث عن تحقيق العدالة النسبية لهذا الشعب. والعدالة النسبية نسبة الى ما حل بهذا الشعب عام 48 هي مبدأ مشترك تصبح مهمة المفاوضات ان تترجمه الى نتائج عملية على الأرض. وإذا غاب المبدأ المشترك الذي تقوم عليه المفاوضات تبقى هذه فريسة موازين القوى التي تفرض حلاً اسرائيلياً. وذاكرة النكبة ضرورية لأن اهم افرازاتها، مسألة اللاجئين، لا تزال حية الى يومنا تنتظر حلاً. وهناك من يحاول اسقاطها من جدول الأعمال الدولي والقومي والوطني على رغم انها بدأت مسألة دولية حاز فيها الفلسطينيون على قرارات دولية في صالحهم كلاجئين قبل ان يعترف المجتمع الدولي بهم شعباً صاحب حق في تقرير المصير. واللاجئون الفلسطينيون ليسوا حالة نفسية تمارس في الفنادق الفاخرة كما يبدو لبعض الشعراء والأدباء. اللاجئون الفلسطينيون حالة قائمة من فقدان المواطنة وفقدان الحقوق الأساسية وفقدان الأمل. واللاجئون الفلسطينيون حالة حقيقية من التناسي والنسيان لدى بعض النخب الفلسطينية التي فقدت الأمل، وباتت تحل مشاكلها الخاصة عبر السياسة. وفي بعض الدول العربية يتم تعليل معاملة اللاجئين الفلسطينيين معاملة الكلاب بذاكرة النكبة ذاتها، لكي يتذكروا ولا ينسوا انهم لاجئون، والحقيقة ان هذه المعاملة ليست تذكيراً بالنكبة بل استمرار لها. انها النكبة ذاتها. لا يستجدي الفلسطينيون كما يبدو مواطنة او توطيناً ولكنهم ليسوا بحاجة الى الاضطهاد والتنكيل ليتذكروا قراهم ومدنهم اذ انهم لا يزالون يتوارثون الاسماء ومفاتيح البيوت المهجورة وحالة الانتظار والأمل واليأس.