منذ منتصف شعبان والذي يسميه القرويون (قصير)، لأنه من وجهة نظرهم يمر سريعا، فلا يكادون يشعرون به لقصر أيامه، وانطوائها، يبدأ القرويون احتفالهم بشهر رمضان، كلّ وفق اختصاصه، فتعمد المرأة إلى تزيين بيتها، بيديها، تقرّب سمنها وعسلها، وتطحن الحبوب، وتجلب الماء، تجمع الحطب، وتدهن ما بلي من جدران بيتها وعرصاته، تفعل ذلك بيديها دون حاجة إلى يد عاملة، فتكون المرأة قد أوجبت للشهر حقه، ولبيتها وأسرتها حقّهم. أما الرجل القروي فيبدأ استعداده لشهر رمضان بالتسوق في أسواق القرى الأكثر شهرة (وهي أسواق قليلة العدد ولها أيام معلومة )، يجلب الحب، ويبتاع السمن والعسل (إن لم يكن لديه في بيته ما يكفي)، أما اللحم فكان غالبية أهل القرى يملكون الماشية.. ويملكون في العادة الحليب البقري، ويتهادونه فيما بينهم.. تلك كانت الاستعدادات الأولية لشهر رمضان، وهي تقاليد سار عليها أهل القرى دون استثناء. كل هذه الاستعدادات لا تخلو من "فزعات" بين نساء القرية، فالمساعدة وتبادل التهاني والأحاديث الحميمية التي تسبق الشهر أفعال تنسجم وطبيعتهم، فهي سلوكات تنظر إلى الحياة على أنها سعادة في همّ مشترك، وعونٍ في حاجة جارٍ أو مستحق. تلك العادات لا تقتصر على النساء كبيرات كنا أو صغيرات، بل تصل الرجال أيضا، فمن كان لديه همّ قضي، ومن كانت له حاجة سدّت حاجته.. ومن كان له عتب صفح عنه أو أرضي بحقّ، ليست القرية جنة كما يُعتقد، وليست حرماناً كما يُظن، لكنها نموذج فعلي للتصالح، وحياة تُعد صورتها نموذجاً للتكافل، وعنواناً للمحبة فيما مضى. هكذا يستقبل القرويون شهر رمضان دون إحن، فالخلافات التي لا تخلو منها قرية، تتلاشى في شهر الخير، فتغتسل تلك النفوس وتتقارب؛ لتعمر لياليهم فيه بالصلوات جماعة في مسجد القرية (قبل أن تتعدد المساجد وتختلف التوجهات).. تلك كانت حلقة أولى من حلقات ما قبل رمضان في ذاكرة رجل قروي. علي فايع قاص وناقد