جرادة.. سأحدثكم عن جرادة.. لقد حمَّلوها أكثر مما تحتمل، وسلبوا وجودها، وحطموا كيانها، وأمعنوا كثيرًا في إذلالها وإهانتها، كانت تئن من جور قيود العبودية، وتشتكي تهميش الكرامة وسحقها، كانت تحلم بالسلام، وفجر يبدد الظلام، وشمس تبث الدفء والأمان، وليل لا تنتهك أرضها في جنحه، وعندما عجزت وأعيتها الحيل واستنفدت كل السبل، راحت بفطرتها تبث آهاتها المحملة بالشكوى والاعتراض، ولكنهم قالوا: «إن جرادة تغني». لا أحد يذكر تحديدًا متى أول وآخر مرة ظهرت جرادة، ولكن الكل أجمع على أنها باقية، وفي كل وقت ومكان لها حضور، حتى حين يخلو الإنسان بنفسه تحضر معه، ترافق بآهاتها المقهورة كل حادٍ، وتدخل كل قصر مرفهة فارهة، وتختبئ بين الضعفاء كيد حانية، وتجد مجدها ومكانتها عند العشاق والكادحين الذين يرونها السبيل الأخير ومنفذ الضوء نحو الوجود. أرقتني «جرادة» كثيرًا وظلت عالقة في ذهني، وكأنها تحثني على البحث عن الحكايات التي لم تروَ عنها رغم كل ما قيل ويقال، تخيلتها تقتحم عرضًا مسرحيًا، وتتفرد في تقديم حفلة غنائية حضرها الجميع إلا أنا، وشَدَت بتراتيلها في كل المعابد، شاهدتها تعلم الأطفال أول صوت، أوقدت حروبًا، وأخمدت حرائق في القلوب، وجمعت كل الشعراء الأحياء منهم والأموات لتنسج من أشعارهم لحنًا، ورأيتها بسحنتها السمراء تجند جنودًا على مر الأزمنة لينقلوا بعضًا من وجعها إلى كل من بث أنفاسه على الأرض، ولكنها فعلت. ما زال سيل من الأصوات يحرم آهات جرادة، ويلعن كل من أناخ سمعه لها، وكأنهم خائفون من فضحهم إن جسدت أوجاعهم التي يكابرون عليها صرخة من صرخاتها التي تُأجج النشوة والرقص والبكاء، وقفوا يلعنونها على المنابر ويجرمون كل من فعل فعلها، ويتباهون بتحطيم ما قد بقي منها، وفي الليل يتراقصون على لحنٍ شجي، ويغنون. الجارية جرادة التي يروي التاريخ أنها أول عربية غنت قبل أكثر من 1500 عام، ما زال صوتها يتردد، وما زالوا يحاكمونها في غيابها، ولكنها تغني.