على ظهور المطايا تفضل العرب السير في الليل، حيث الجوٌ رقيق وبارد، والسماء مرصعة بالنجوم، وقمرها في الأعالي يومض ويلوح، يوحي بالشعر والوجد، ويذكر الساري بطلعة الحبيب، فيرفع عقيرته بالغناء الشجي، يسلّي به نفسه، ويُسَلِّي به مطيته التي تتراقص على غنائه، وإن كان وحيداً في الليل البهيم، أو يُسَرِّي به عن نفسه، وعن صحبه السارين معه، إن كان مع ركب، فيرفعون أصواتهم بالغناء يتناولونه كلاعبي الكرة المحترفين، فيسري فيهم الدفء والنشاط وتَدُبُّ فيهم الحماسة، ويستيقظ كامن الشوق، ويومض جمر العشق مشتعلاً في فحمة الليل، متجاوباً مع طلعة البدر، متناغماً مع وميض النجوم، سارياً في أرجاء الصحراء الشاسعة الأنحاء، شاهداً على أن العربي له ذوق مرهف، وقلب خفَّاق، وشعورٌ نبيل، وإحساس يتجاوب مع روعة الوجود، فهو لا يسري بليله الطويل خائفاً يترقب، ولا ملولاً يتضجر، بل يسري مغنياً نشواناً بالحياة، يجعل الليل البهيم يتجاوب معه، والجبال، والنسيم العليل يحنو عليه، ويوصل رجع صوته الندي الذي يتغنى، إلى كل شجرةٍ في الصحراء وكل صخرة، في امتزاج مذهل بالكون والوجود.. ومن سريان الأعراب بسواد الليل نشأ فن (الهجيني) وهو نوعٌ من الغناء الجماعي الشجي، وَزْنُهُ كأنما يغنِّي بنفسه، ووقعه على القلوب فيه وجدٌ وحنين، وهو منسوب إلى (الهجن) وهي الإبل، لأنها تحنُّ لهذا النوعِ من الغناء، وتحنُّ عليه، وتتراقص، وتَقْرُبُ من بعضها وتُبْعِد، وتُسْرع في المسير، ولا تحسُّ بتعبٍ ولا نصب، ولا تستوحش من وحشة الصحراء، ولا من ظلمة الليل، ولا من طول الطريق، ففوق ظهورها صحبٌ لها كرام، يغنُّون بمحبة، ويرفعون أصواتهم المطربة، فيسري في أوصالها الطرب، وتأخذها النشوة، وتحب الراكبين فوق ظهورها، القاطعين سديم الليل البهيم.. ومن فن الهجيني الذي كان أجدادنا يرفعون أصواتهم به، ويتناوبون على غنائه ويتجاوبون، ويقطعون به طول السفر، ويمتطونه فوق المطايا وهم سارون في جنْح ليل بهيم: «والله أني على الهزعة غليل الضمايرْ لو ذلولي من المطراشٍ وانٍ جهدها يا عشيري ترى لولا العيون النظاير كان جيتك على الوجنا الوحيدة وحدها مَشْتَهٍ مَرَّتَكْ لو كان بيعي خساير مَنْ حسبْ فايت الدنيا يبذَّه عددَها كلّ ما حلَّ له طاري تهلَّ العباير وكلّ ما قيل يا مرحوم تصفق بيدها» ٭٭٭ ومن جاهليتهم والعرب يسرون على ظهور المطايا، ويقطعون فوقها بحور الليل، ويتنهدون ويشتاقون، ويشعرون ويُغنُّون، وتُغَنِّي معهم مطاياهم السارية على الأرض تتجاوب مع سريان النجوم في السماء.. وتتحدَّى لَمْعَ السرابِ ونعيقَ البوم، وتتقوَّى بغنائهم على اجتياز كثبان الرمال وخَشْنِ الصخور، في ودّ أليفٍ بين الناقة وراكبها، فلم تكن علاقة العربي القديم بناقته كعلاقة أحدنا الآن بسيارته، كلا.. السيارة جماد.. والناقة كائن حي حسَّاس، عاشق للغناءِ والشعر، وهي - بعد الله - ملاذ العربي في صحرائه المخيفة، التي تسري بها الريحُ حسرى، وتعوي الذئاب، وينعق البوم، الناقة تدفع عنه غائلة الذئاب، ولو نام على ظهرها، و تقطع به المهامه لتوصله لمراده، وتدفئه بوبرها من برد الشتاء، ويستظل بها من هجير الصيف، ويغازلها ويتغنَّى بها، ويصف كلَّ شيء فيها، ويمدحها ويفخر بها. يقول طرَفَةُ بن العبد: وإنِّي لأمضي الهمَّ عندَ احتضارِهِ بعوجاءَ مرقالٍ تروح وتغتدي فالناقة ليست مجرد وسيلة سفر، ولكنها بالنسبة للعربي صديقة ورفيقة الهموم، ولهُ معها أجمل الذكريات: لا يكاد يمتطيها حتى تعود له ذكريات أسفاره الطويلة على ظهرها وكأنها شريط من السينما، ويستحضر مغامراته في الصحراء، ومغامراته مع الحب والنساء، كلُّ هذا أبلغته إياه ناقته الحبيبة، وكان بفضلها، لهذا يذود الهمَّ عنه حين يحضره بركوب ناقته هائماً على وجهه في الصحراء بلا هدف سوى طرد أشباح الهموم، واستحضار الزمن الغابر، وتذكار الأسفار الجميلة، والأحباب الغائبين.. ٭٭٭ والسارون على ظهور المطايا بليل، يقطعون بحوراً فوقها بحور، الليل وحده بَحْرٌ في ظُلْمِتِه ورهبته، وعد تناهيه، والصحراءُ بحرٌ مياهه الرمال وأمواجه الرياح: تجري بها الريحُ حَسْرَى مولَّهةً حيرى تلوذُ بأطرافِ الجلاميدِ فهي كالبحر الميِّت لا يوجد بها طيرٌ ولا شجر، ولا حياة، حتى الرياح تبكي فيها.. ٭٭٭ وقد يُتْعبُ طول الليل السارين، ويهدم السهر والسفر، فينامون على ظهور المطايا، والمطايا المسكينة لا تنام، تمخر بهم عتاب الليل في صمت. وقد شربوا كأس الكرى حتى الثمالة، فمالت رؤوسهم على مناكبهم، وكأنها بدون أعناق.. يقول أبو نواس: ركبٌ تساقوا على الأكوار بينهمُ كأس الكرى فانتشى المسقُّي والساقي كأن أرؤوسهم والنوم واضعها على المناكب لم توصلْ بأعناق خاضوا إليكم بحار الليل آونةً حتى أناخوا إليكم فلَّ أشواقِ من كُلِّ جائلةِ التسعينَ ضامرةٍ مشتاقةَ حملتْ عبئاً لمشتاق والحُسْنُ منك يطوفُ العاشقونَ بِهِ فأنتِ موسمٌ رُوَّادٍ وعُشَّاقِ ٭٭٭ وأجملُ ما يكون الساري بليل، حين يكون مسافراً إلى الحبيب، حبيبٍ يودُّ أن يطير إليه على ظهور الجمال، يودُّ أن يكونَ للجمال أجنحة، لشدة الشوق.. ومِنَ الوَجْدِ أن يكون الساري بليل عائداً من غربةٍ طويلة ناصبة، والطريق أمامه لا حبٌ طويل، وشوقه إلى زوجتِهِ الحبيبة وصغاره الأعزاء يمضه، وحنينُه لهم بينه وبينهم صحارٍ وقفار: أحٍنُّ لهم ودُوَنهُمُ فلاةٌ كأنَّ فسيحها صدرُ الحليمِ فهو حار الشوق، والصحراء باردة الأرجاء لا تنتهي ولا تعبأ، كأنَّه حارٌ عند بارد، أو شجيٌ عند خلي، حتى يصرخ: أقولُ لصاحبي بأرضِ نجدٍ وجدَّ مسيرنا ودنا الطريقُ أرى قلبي سينقطع اشتياقاً وأحزاناً وما انقطعَ الطريقُ وكلما اقترب من ديار أحبابه خفق قلبه وازداد شوقه وودّ لو يطير: وأكثرُ ما يكونُ الشوقُ يوماً إذا دنتِ الديارُ مِنَ الديارِ