أعلم يقينا أن وزارة التعليم هدفها الأسمى رفع مستوى الطالب السعودي إلى أعلى درجات العلم والمعرفة، ونحن نشاركها جميعا هذا الهم ونقاسمها هذا الطموح، سواء أكنا معلمين أو أولياء أمور أو طلاب، أو حتى مجرد مواطنين لا ناقة لهم ولا جمل في التعليم. فالتعليم واجهة الوطن، ووطن بلا تعليم ناجح هو وطن جريح، تعجز قدماه عن حمله، ويمتلئ جسده بالجراح والدماء والكدمات والدمامل.. ولذا لا نستغرب تلك الملايين التي تخصصها الدولة حفظها الله من ميزانيتها السنوية لدفع عجلة التعليم قدما نحو الأمام، تطلعا لمستقبل يليق بمكانة هذا الوطن العظيم.. لكن الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم هذا العام فرضت على الوزارة اللجوء للتعليم عن بعد لتفادي مطب تأجيل الدراسة، وربما وجدتها فرصة مؤاتية لتأسيس هذا النوع من التعليم، وتقديمه للمجتمع خيارا مهما ومتماشيا مع التوجه العالمي للتعليم الإلكتروني.. ولا شك أن الوزارة حاولت أن تسابق الزمن وأن تتحدى كافة الصعوبات التي تتعلق بالبنية التحتية للمجتمع التعليمي، وبالثقافة المجتمعية شبه المعدومة بأهمية هذا النوع من التعليم.. وجهود الوزارة في هذا الشأن لا يمكن حجبها حتى من أشد المعارضين، بعد أن قدمت بديلا عملاقا متمثلا بمنصة مدرستي، التي تفاعل معها المعلمون وطلابهم وأسرهم بدرجات متفاوتة تراوحت بين الشغف والتفاؤل والحماس والعطاء والابتكار ومرورا بالتعايش والتفاعل الرسمي وتأدية الواجب و«تمشية الحال» وانتهاء باللامبالاة والاستسلام والتشاؤم والسلبية. وبشكل عام تفاعل المجتمع السعودي بكافة أطيافه مع توجه الوزارة وعمل معظم المنتمين للمجتمع المدرسي على إنجاح التجربة، إيمانا منهم بأهميتها وضرورتها في الوقت الحالي، واستشعارا منهم للمسؤولية الملقاة على عواتقهم تجاه هذا الوطن العظيم وذخيرته الحية المتمثلة في شبابه، وتجاوبا منهم مع جهود الوزارة الكبيرة الظاهرة للعيان، وتعاطفا مع وزيرها النبيل الذي يحظى بشعبية كبيرة بين المعلمين والطلاب والمجتمع التعليمي الكبير، مما كان له أطيب الأثر فيما نراه من تفاعل مثمر.. ولا يمكن طمس إيجابيات هذه التجربة الفريدة مهما بلغت شدة المعارضة عليها، ولننظر إلى الفرق الهائل بين أداء المنصة في الأسبوع الأول والثاني، بل انظروا إلى البون الشاسع بين أول يوم من انطلاقة الدراسة الفعلية واليوم الثاني من حيث نجاعة الأداء في منصة مدرستي، وطاقتها الهائلة لاستيعاب عدة ملايين من المستخدمين في الوقت نفسه، وتفادي الوزارة والجهات المساندة لها الأخطاء التي حدثت في اليوم الأول خلال بضع ساعات، وهي دروس حقيقية «ليست افتراضية» قدمتها الوزارة لمنسوبيها خاصة وللمجتمع عامة في ضخامة الإنجاز وسرعة تفادي الأخطاء وتقديم البدائل في وقت قصير.. ومع جميع هذه الوجوه المشرقة والجوانب المضيئة للتجربة الفريدة فقد ظهرت بمحاذاتها جوانبها المظلمة ووجوهها الكالحة - وهذا أمر طبيعي يعرفه الناجحون قبل غيرهم ويتزامن مع كل تجربة بشرية وعمل إنساني جماعيا كان أم فرديا- من هذه الجوانب المظلمة: 1. تداخل الأدوار: فالمعلم والمعلمة هما غالبا من الآباء والأمهات وعملية التوفيق بين أبناء المدرسة وأبناء المنزل بدرجة النجاح نفسها أمر مستحيل، كما أن ارتباط الوالدين بوظائف غير تعليمية يحتم تخليهما عن متابعة الأبناء في إحدى الفترتين أو كلتيهما.. حيث لا يمكن التعويل على وعي الأبناء وحده خصوصا بالمرحلتين الابتدائية والمتوسطة بسبب خصائص المرحلة العمرية وطبيعتها. 2. الدوام الطويل: ينبغي على الوالدين (أحدهما أو كلاهما) الاستيقاظ قبل التاسعة لإيقاظ الأبناء الدارسين في المرحلتين المتوسطة والثانوية، ويستمر هذا العمل الشاق لقرب الساعة الثالثة، تسبقه وجبة الإفطار وتتخلله وجبة الغداء وتعقبه صلاة العصر، ثم تبدأ فترة الابتدائي، وهم أشد وطأة وأصعب متابعة من سابقيهم، بسبب زيادة الطاقة وفرط الحركة التي تتنافى مع البقاء أمام الجهاز الجامد ست حصص متتالية، تتخللها فترة لهوهم وانطلاقهم العصرية لا سيما في القرى والأرياف..حيث يصعب إقناع الأطفال بالتضحية بها تحت أي ظرف. 3. تضارب أوقات نوم الأبناء: ففي حين نفرض على أبناء المتوسط والثانوي الذهاب للنوم مبكرا والاستيقاظ قبل التاسعة، فإن ذلك لا يبدو خيارا جيدا للابتدائي، حيث إن استيقاظهم مبكرا يسبب ربكة ويخلق جوا من الفوضى، ويشغل الوالدين عن أداء مهامهم الرسمية والمنزلية، فيضطر الأهل لتعديل نومهم ليتوافق مع دوامهم المسائي ولكن هذا يعني سهرهم ليلا وهو أمر لا تخفى سلبياته الصحية عليهم، بالإضافة لحرمان الوالدين من حق الراحة ليلا بعد نهار طويل وشاق، لخطورة تركهم بمفردهم، بالإضافة للفوضى، والصخب الذي يحدثونه أثناء وقت راحة الوالدين.. ونشير هنا إلى أن الأم بالذات تتحمل ضغطا هائلا على الصعيد الجسدي والنفسي والفكري، بشكل يومي مستمر على مدار 24 ساعة تعجز عن تحمله ماكينة ألمانية الصنع.. وبين الوجوه المشرقة والكالحة تقف الوزارة والمجتمع التعليمي لإصلاح الخلل ومسابقة عقارب الزمن من جديد.