التوحيد هو الأساس الذي تصح معه الأعمال، وهو الذي خلق الله من أجله الجن والإنس، قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} أي: إلا ليوحدون. والتوحيد هو أول واجب على المكلفين لحديث (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. - وفي رواية: إلى أن يوحِّدوا الله)، كما أن من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، كما في الحديث الصحيح. ومن هنا فإن الواجب على جميع المكلفين أن يُعنوا بالتوحيد اعتقادا وقولا وعملا ودعوة، وليحذروا أن يُشغلهم عن التوحيد شاغل، فهو سبب سعادتهم بعد فراقهم الدنيا، كما أنه أيضا سبب سعادتهم في الدنيا، وبلوغهم الحياة الطيبة فيها كما قال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، وسبب أمنهم وهدايتهم، قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون)، وهو سبب الثبات والثقة والطمأنينة عند المخوفات، ولهذا لما خاف أصحاب موسى من البحر الذي أمامهم وفرعون وجنوده الذين خلفهم، وقالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُون)، أي سيلحق بنا فرعون وجنوده، نجد أن نبي الله موسى -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي حقق التوحيد الخالص لله رب العالمين، يطمئنهم، ويقول لهم بكل سكينة وثقة بالله، { كلا} أي: لسنا مُدرَكين، قال ذلك وهو لا يعلم ماذا سيحصل، لكنه للتوحيد الخالص في قلبه يعلم أن من كان مع الله فإن الله معه، يؤيده وينصره، ويجعل له من أمره مخرجا، يدل على ذلك قوله {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين}، ولما قال ذلك جاء الفرج مباشرة كما تدل عليه الفاء الفجائية في الآية الكريمة وهي قوله تعالى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم}، فحصلت لهم النجاة، ولعدوهم الغرق. إن القلوب لا ترتاح ولا تطمئن إلا بالتوحيد، كما في قوله تعالى عن أهل الإيمان والتوحيد (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب)، وكان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم الذين تعلموا التوحيد من معلمهم نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، يشعرون بطمأنينة عالية في أشد الأزمات، ولذلك لما قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، زادهم ذلك إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، هكذا هم أهل التوحيد ينعمون بالسكينة والطمأنينة، وكان من نتيجة ذلك أن انقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء كما قال تعالى (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم)، فالمخاوف والشدائد لا تزيد أهل الإيمان إلا ثباتاً وطمأنينة، وتأمل قوله تعالى في قصة الأحزاب {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، تحزّب الأحزاب على أهل التوحيد والإيمان، وجاؤوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ومع هذا لإيمانهم لم يضطربوا، بل زادهم إيمانا مع إيمانهم، بينما من لم يذق حلاوة التوحيد لم يحصل لهم ثبات ولا طمأنينة، بل حصل عندهم القلق والشك وزيادة النفاق كما يدل عليه قوله تعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا). فقارن بين الموقفين، لترى أن الفرق بين أهل التوحيد ومخالفيهم، كما بين السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع. كلهم في غزوة واحدة، وتعرضوا لمؤثر واحد، لكن اختلف الموقف، أهل التوحيد قالوا (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، ومخالفوهم قالوا (ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا)، وقالوا (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا). فالثبات إنما هو لأهل الإيمان، والفرار وانخلاع القلب والإرجاف والتخويف إنما هو لمخالفيهم، والله الموفق لا رب سواه، ولا معبود بحق سواه.