تُركز النُظم الصحية على الرعاية العلاجية «Curative Care» من خلال السعي لزيادة أعداد المُستشفيات العامة والمراكز التخصصية، وتوفر عدد الأسرة في تلك المستشفيات والمراكز، وعدد المُمارسيين الصحيين، وكذلك توفر كافة أنواع العلاجات الدوائية والجراحية، وربما يمتد الأمر ليصل لتباهي تلك النُظم الصحية بالجميع واعتبارها تقدما صحيا!. وهذا لا شك مطلب صحي، ولكن لربما يُقرأ بطريقة مختلفة تُوحي بتفشي الأمراض وزيادة معدل انتشار المُعضلات الصحية نتيجة انعدام برامج تعزيز الصحة والوقاية من المرض، خاصةً إذا علمنا أن جُلّ أمراض زمننا الحالي تُدرج تحت ما يُعرف بمجموعة الأمراض غير السارية «Non-communicable Diseases» وهي الأمراض التي لا تنتقل من شخص لآخر، والتي تُعتبر الأكثر شيوعًا بين الناس بالمقارنة بالأمراض السارية «Communicable Diseases». من باب الاستشهاد، فإن مُسببات الوفاة والإعاقة وفقًا لمنظمة الصحة العالمية «WHO» والمعهد الوطني للصحة الأمريكي «NIH» تعود للأمراض غير السارية التي بالإمكان الوقاية منها متى ما توافرت برامج تعزيز الصحة والوقاية من المرض. الحديث اليوم عن البرامج التعزيزية والوقاية من الأمراض، والتي تُدرج عادةً تحت ما يُسمى بالصحة العامة أو الطب الوقائي. من المُلاحظ ارتباط برامج الصحة العامة في العموم على ما يمكن تسميته إن جاز التعبير بالصحة المادية مثل: التلوث البيئي ونظافة الماء وسلامة الغذاء والضجيج والسموم والسلامة المهنية ومواجهة الكوارث والأوبئة الصحية والمناخ إلخ...، ورغم أهمية الجميع، إلا أن هناك قضية ذات علاقة بجميع الأمراض غير السارية والسارية يتم تجاهلها، ألا وهي سلوك الإنسان ودوره في التعزيز والوقاية والعلاج وتحسين جودة الحياة. يُعتبر السلوك الإنساني قاعدة الوقاية ومحور الصحة العامة، فالوقاية من الجميع سلوك لا يمكن وصفه من خلال عقار دوائي تتولاه شركات الدواء ولا يمكن إيجاده بمشرط جراح ولا بعدد المستشفيات وتوافر الأسرة، وإنما من خلال تعزيز الصحة والوقاية من المرض في ثلاثة مستويات، المستوى الأولي «Primary» وهو الحفاظ على الجميع ليبقوا أصحاء ليدوم عليهم لباس الصحة والعافية، والمستوى الثانوي «Secondary» وهو الحفاظ على المرضى المُتعافيين من عودة المرض لهم أو تدهور أمراضهم المزمنة بفعل السلوك غير الصحي، والمستوى المُتقدم «Tertiary» وهو الحفاظ على المرضى من تدهور صحتهم بفعل السلوك غير الصحي والمُفضي إلى نتائج صحية خطيرة. من هنا، فالحاجة ماسة إلى تفعيل دور العلوم السلوكية «Behavioral Sciences» كقاعدة لتعزيز الصحة والوقاية من المرض وتحسين جودة الحياة، والذي يُعتبر الوجه الحقيقي للنُظم الصحية المتقدمة، وفي ذات الوقت يُوفر الهدر المالي الذي يُنفق على التدخلات العلاجية بما يُعرف اليوم بالاقتصاد الصحي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو استطعنا وقاية شخص «ما» من الإصابة بمرض السكر «النمط الثاني» من خلال تعزيز صحته بسلوك صحي سليم كالرياضة والغذاء المُتوازن وتقليل الضغوط مثلاً، فلن يظهر عليه المرض بحول الله أو لربما تأخر ظهوره، وفي حال ظهوره وسلوكه الصحي غير السليم بعدم ممارسة الرياضة وانعدام الحمية وكثرة الضغوط وعدم الالتزام بالعلاج، فإن النتائج خطيرة، وتتلخص في فشل كلوي وانعدام الرؤية وبتر الأطراف وما يترك ذلك من آثار على الفرد ومن يرعاه والنظام الصحي، هنا دور السلوك الإنساني في التعزيز والوقاية وكذلك الإصابة والتدهور، وهذا ما قصدته من تفعيل العلوم السلوكية في مجال الصحة العامة والطب الوقائي ليخرجا الاثنان معا من عباءتهما التقليدية إلى الشمولية. عودة على تفشي فيروس كورونا المستجد، ورغم أنه فيروس حيوي، إلا أن سببه وانتشاره والوقاية منه وعلاجه وعلاج ما يترتب عليه «سلوكيا»، كما أشرت في مقالة سابقة بهذا الخصوص، ما أعنيه هنا أنه سيكون هناك وجه آخر للصحة محليا وعالميا بعد تفشي هذا الوباء، ألا وهو تفعيل دور السلوك الإنساني في مجال تعزيز الصحة والوقاية من المرض، كبنى تحتية للصحة العامة والطب الوقائي، ومثل هذا لمسناه في حديث مُتلفز لوزير الصحة عندما قال: إن وزارتنا أصبحت وزارة وقاية ولم تعد وزارة علاج، المُتبقي هو التفعيل. الخلاصة إن إعداد وتأهيل الممارسيين الصحيين في كليات الطب وطب الأسنان والعلوم الطبية التطبيقية والصحة العامة والتمريض يجب أن يتم من خلال دمج المعرفة العلمية بالمُمارسة ودمج المعرفة السلوكية ضمن المناهج تلك الكليات، وتغيير وجه المُمارسة الصحية ليتم التركيز على الوقاية في مُستوياتها الثلاثة سابقة الذكر، وسنامها الحفاظ على الصحة في العموم، فلا ندع الناس تمرض ثم ننشد العلاج، ويجب أن تكون الرعاية العلاجية مُتمركزة حول المريض. ما زال للحديث بقية.