كان عددنا لا يتجاوز العشر عندما اجتمعت بنا مديرتنا الجديدة، قبل عشر سنوات تقريبا، وضحت لنا الخطوط العريضة في سياستها الإدارية، ثم وجهت لنا أسئلة لم نسمع بها من قبل: ما رأيكن؟ ماذا تقترحن بهذا الشأن؟ كيف نطور هذه الفكرة؟ من لديها القدرة لتولي هذا العمل؟ هل هذه الطريقة الأفضل أم أن هناك طرقا أسهل وأحسن؟ كم يلزمنا من الوقت للتنفيذ؟ ما الأدوات التي نحتاجها لإنجاز هذا العمل؟ لماذا يحجم البعض عن تولي مسؤولية هذا العمل؟ حددي المعوقات.. اقترحي الحلول؟ ما التجارب التي أجريت في هذا الشأن؟ قبل أن تطرح المديرة الجديدة أسئلتها، كنا نظن أننا نسخ مكررة من بعضنا، نستمع ثم ننفذ بطريقة آلية روتينية بائسة. بعد أن انتهت من طرح أسئلتها وانتهينا من بسط إجاباتنا المختلفة وآرائنا المتنوعة، شعرنا بأننا عشر طاقات، عشرة عقول.. وبالطبع مئة رأي وألف طريقة.. وأصبحنا نتسابق على وضع بصمتنا الخاصة في كل عمل يتم إنجازه.. لقد تحولت الأوامر إلى نوافذ تغمرها شمس الأفكار الجديدة كل يوم، وتحول العمل إلى إنجاز. في الجانب الآخر اعتادت إحدى المديرات على استخدام نظرية القطيع في تعاملها مع مرؤوساتها، وبمرور الوقت واستجابة الفريق تحولت هذه النظرية لمبدأ، وسياسة عمل، كونها النظرية الأسهل بين جميع النظريات، حيث لا يتطلب استخدامها سوى استغفال المجموعة واستغلال الجهل العام بالأنظمة والحقوق. تصدر هذه المديرة كل صباح قائمة عريضة بالطلبات بأسلوب لا يخلو من الاستفزاز، وذلك لتعزيز شعور المرؤوسات بالخطورة والخوف، بينما في حقيقة الأمر هي أمور روتينية لا تقدم ولا تؤخر في المسيرة الحقيقية للعمل، لكنها تصدرها بطريقة تشعر معها الموظفة أن مستقبلها الوظيفي على حافة الخطر إن لم تنجز هذه المهمات على وجه السرعة، فتنفق كثيرا من الوقت والتفكير في إنجاز مهمات ورقية لا قيمة لها، وتتبعثر ساعات العمل الذهبية في متابعة قروبات العمل، وتنفيذ الأوامر العاجلة دون إبداء أي رأي مخالف، المسموح به فقط في نظرية القطيع كلمات محدودة جدا مثل: تم، أبشري، حاضرين، أمرك. يعود أصل تسمية هذه النظرية إلى الرعاة الذين يسوقون قطعان المواشي في السهول والجبال، حيث لا يسمح الراعي لأحد أفراد القطيع بالخروج عن المنظومة مستخدما عصاه المرنة حينا والصلبة أحيانا. تتميز هذه النظرية أنها تعزز كل يوم في الرئيس الشعور بالأهمية والسيطرة المطلقة، وتقتل في الوقت نفسه في المرؤوسين قيم الاعتداد بالذات والشعور بالأمان الوظيفي وتسحق الإبداع، وتحيل العمل لكومة من الورق الميت. لا يقتصر استخدام هذه النظرية على الرؤساء فقط، فقد تبرز أيضا داخل حجرة الفصل، عندما ترمي المعلمة المعلومات كما تعرفها هي دون أن تسمح للطالبات بمناقشتها في حقيقة هذه المعلومات، وبعض المعلمات تعتبر تداخل الطالبة قلة أدب، ومخالفا لقوانين الفصل، سواء كانت هذه المعلومات في المنهج الدراسي أو من بنات أفكارها.. دون أن تكلف نفسها عناء فحص نوع المداخلة أو الرأي، وهل هي أصيلة تستحق النقاش، أم مجرد ثرثرة لإضاعة الوقت وتشتيت انتباه المعلمة والفصل. قبل أن نسترسل يجب أن نعلم أن هذا الأمر لا ينطبق على طوابير الصباح في المدارس والكتائب العسكرية مثلا، حيث إن هدفها ليس إشباع شعور السيطرة عند القائد وطمس هوية المقود، وإنما هي فترة محددة لتعليم الفرد الانضباط والالتزام بأنظمة المكان، وتتميز بحصول الأفراد على قدر كافٍ من التدريب، يتخلله إلمام كامل بالأهداف القريبة والبعيدة لكل عملية. ولا يخفى على أحد كيف يستخدم الوالدان أو أحدهما هذه النظرية في تربية الأبناء، حين يكون النقاش «ممنوعا والعتب مرفوعا». ولا يدرك هؤلاء أن نظرية القطيع هي النظرية الأسهل للقائد الذي تنقصه الكفاءة، حيث لا يتمتع بالملَكات التي تمكنه من إدارة مرؤوسيه بالحوار والإقناع وإذكاء روح المنافسة والإبداع، ما يمكنه من اكتشاف المواهب والطاقات الخاصة التي يتمايز بها أفراد فريقه ويوظفها في مصلحة العمل. وصحّ عن القائد المتفرد على مدى تاريخ القيادة البشرية صلى الله عليه وسلم، أنه كان يستمع لجميع الآراء من مختلف طبقات المجتمع المدني، ابتداء بهامات كبار الصحابة، وانتهاء بالأطفال، ومرورا بالنساء والخدم وعامة المسلمين. بل فتح قنوات التواصل والحوار مع أعدائه من كفار قريش واليهود، ولم يستخدم السيف سوى في قضايا الحياة الكبرى بأمر الله، عز وجل.