عند الحديث عن شخصية بحجم الخليل ابن أحمد الفراهيدي، فالحديث ذو شجون. فنحن نتحدث عن شخصية يعدّها كثيرون المؤسس الحقيقي لعلم النحو، فضلا عن كونه أول مبتكر لفكرة المعاجم العربية، بوضعه معجم العين الذي حصر فيه أساليب الألفاظ وأنماطها في اللغة العربية. ولكن ذيوع صيته يعود إلى وضعه علم العروض الذي يعد معجزة علمية بكل المقاييس. فالعروض -ببساطة- هو نظرية للوزن، وما يجعل هذه النظرية أشبه بالمعجزة كونها تنتمي إلى أكثر من مجال: فإضافة لانتمائها إلى اللغة والشعر والموسيقى، فهي تنتمي إلى الرياضيات من حيث التجريد، وإلى الفيزياء من حيث الظاهرة الصوتية، وهذا ما جعل نظريته تكاد تكون متكاملة بلا نقصان، ولعل ذلك هو السرّ في أن اللغويين الذين جاؤوا بعده من العروضيين، لم يستطيعوا أن يزيدوا على عروضه زيادة تذكر أو تمس الجوهر، لذلك النظام الفريد في علم العروض. يقول ياقوت الحموي «إن الخليل أول من استخرج العروض وضبط اللغة وحصر أشعار العرب، وإن معرفته بالإيقاع وبناء الألحان المنشدة والمغناة على مواقع الكلام، هي التي أحدثت له هذا العلم الذي اشتهر به وهو علم العروض». فلم تقتصر مجهودات الخليل على ظواهر اللغة ووصفها وتعليلها فحسب، ولكنه وظف ثقافته الهائلة في الجانب الفني للغة. فقد درس اللغة دراسة فنية حتى وصل إلى إدراك الحس اللغوي عند العرب، وعرف أن اللغة العربية لغة موسيقية ذات أنغام خاصة، فأخذ يدرس الشعر دراسة فاحصة، تناول فيها الجانب اللفظي الموسيقي، فخرج بنتيجة مفادها أن الشعر العربي كله لا يخرج عن كونه قائما على أوزان معينة لا يتعداها، سمّاها بحورا. تعكس نظرية الوزن عبقرية الخليل دون شك، وتعكس مدى إلمامه بكثير من التخصصات التي لا بد أن يُلمّ بها رجل مثقف، وإلمامه بالموسيقى لاستخدامها في فهم دقائق اللغة التي كان يرى أنها مجموعة من الأصوات الموسيقية، قد يلفت الانتباه إلى نقطة مهمة جدا، وأن هناك رغبة مضمرة عند الخليل للحفاظ على اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، ويلفت الانتباه إلى نقطة أخرى أكثر أهمية، وهي وجود أسباب دينية غير مباشرة للاهتمام بعلم العروض، تتمثل في الحفاظ على اللغة العربية. كان تأسيس علم العروض حاجة اجتماعية عارضة، دعت إليها الحاجة بعدما اختلط العرب بغيرهم، وعاشوا في بيئة واحدة. والتراث الشعري كانت له أهمية قصوى في زمن الاحتجاج اللغوي، وله أهمية أيضا في تفسير كثير من الآيات القرآنية، لذلك كانت أهمية الحفاظ على سلامة هذا التراث تمثل مسؤولية حضارية على أفراد المجتمع، بعدما أحاطت بهم الظروف التي يخشى منها على كيان وتراث الأمة. صحيح أن الشعر دائما ما يكون فطريا ينتج بالسليقة، ما دامت الأمة بعيدة عن التعرض للأسباب المؤدية إلى حدوث التطور اللغوي الذي سيؤدي بالضرورة إلى فقدان اللغة العربية التي نزل بها القرآن، مما ينتج عنه فقدان الأدوات التي يفسر بها القرآن. إن الشعر ديوان العرب، وخزينة اللغويين التي ينهلون منها لوضع صورة معيارية للغة العربية، حتى تكون قابلة للتعلم في كل زمان ومكان. فكل بيت حُفظ يمثل وثيقة يستدل بها نحويا ومعجميا وصوتيا، والشعر كما أنه يلعب دورا في حفظ تراكيب اللغة ومعانيها، فإنه يلعب دورا أيضا في إيقاعها وعروضها. والوزن العروضي لا شك سيؤدي إلى الحفاظ على النطق الصحيح، ويحافظ على البنى الصرفية الفصيحة، فأجبر على التقيّد بالإعراب والحركات في الكلمات المكونة لأبيات القصيدة، وبالتالي حافظ على بحورها.