ما أشد المعاناة من جدلٍ لا يفضي إلى الحقيقة، كجدل أيهما الأول البيضة أم الدجاجة؟. وهو سؤال رمزي متداول لجدلٍ تقليدي شائع، كان بالإمكان الخروج منه بالتركيز على هدف السؤال ومبتغاه، وهو الحقيقة، فالأولى السؤال عما قدمته البيضة أو الدجاجة من فائدة للناس، فلا يهم أيهما الأول، فذلك جدل بيزنطي عقيم لا يقدم قيمة مضافة للمجتمع، فالعبرة بفائدة الأشياء، وقيمة الشيء تكمن في ذلك، وهي مرجعية نظرية في علم الاقتصاد في التفريق بين مفهومي الثمن والقيمة، فالثمن حساب للتكلفة والعائد، والقيمة معيار للمنفعة، قد يتقاطعان أو يتوافقان في بعض الحالات، كما يدل على ذلك مضمون المثل الشعبي: «الطيب ثمنه فيه»، أو كما يفهم من القول: «إن للكلمة الطيبة قيمة يستفاد منها، وللسيئة ثمناً يدفع بها». وإذا كانت الأسئلة، في عمومها، تعبر عن حالة استفهامية، فإن الأجوبة هي تلك التي تكون محل هذا الاهتمام، لأنها هي التي تتحمل عبء تحقيق تلك الحالة المرجوة من الهدوء في الأنفس، والاتزان في المجتمع، فمعظم الخلاف بين الناس يكون في الإجابة وليس في السؤال، وتلك هي طبيعة البشر الذين يجدون غضاضة في تقبل الرأي الآخر إن مال إلى التشدد أو الإفراط، أو غلبت عليه سمات العنف والقسر والإكراه، وفي ذلك قال المصطفى عليه الصلاة والسلام «ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه». من هذا الهدي النبوي الشريف تبنى الذات الإيجابية القادرة على تجسيد الأنموذج البشري الأمثل الذي يمكنه أن يرسم معالم حياة اجتماعية مستقرة، تكون فيه للكلمة الطيبة مكانة عالية رفيعة في نسيج المجتمع، يمكن من خلالها تجسيد التواصل بين أطرافه بما يحقق الحرية والعدالة التي تكفل الحق الخاص والعام، على حد سواء، فالحقوق لا تتجزأ بل هي منظومة متكاملة. وإذا كان الرفاه الاقتصادي معياراً مادياً لرفاه المجتمع، فقد عبر عنه الاقتصادي الإيطالي باريتو في أدبيات اقتصاد الرفاه في القرن الميلادي التاسع عشر، بما عرف بمثالية باريتو، أو حالة الكفاءة الاقتصادية التي تتحقق عندما يحصل فرد في المجتمع على منفعة دون أن يكون ذلك على حساب فرد آخر فيه، بمعنى أن الكفاءة الاقتصادية لا تتحقق إلا في حالة تعميم المنفعة في المجتمع، بحيث لا يضار فرد فيه على حساب منفعة الآخرين، وذلك هو مفهوم كفالة الحق الخاص والعام، وهي الدرجة المثلى لتحقيق الحريّة والعدالة في المجتمع.