في عام 1419/ 1999، كانت الاحتفالية الأهم في تاريخ مملكتنا الحديث، مناسبة الذكرى المئوية لمسيرة التوحيد. وكان لي شرف المساهمة في تنظيم معرض «مجموعة التوحيد»، الذي أقيم في «بيت نصيف»، وهذه رحلتي مع المجموعة والمعرض. في إحدى الليالي من عام 1982، وأنا أسير مع أخي طارق علي رضا، بالحي القديم بمدينة جنيفسويسرا، حيث توجد كثير من المعارض الفنية، صدفة لفت انتباهنا لوحة في واجهة أحد المعارض، شدتنا بمنارتها التي أحسسنا أنها جزء منا ونحن منها، وكأنه ينبعث منها صوت يدعونا إليها. وهذه هي القيمة الفنية التي يعكس فيها الفنان مشاعره لتؤثر على أحاسيس المتلقي. سألنا صاحبة المعرض عن لوحة المئذنة: من الفنان؟ وأين رسمها؟ فأخبرتنا أنه فنان أميركي اسمه (جيرهارت ليبمان)، من نيويورك، ولا تعلم كثيرا عن اللوحة، طلبنا منها وسيلة للتواصل وحصلنا على رقم هاتفه، وتمكنا من مهاتفته، ورحب بنا كثيرا، وكان متشوقا للعودة إلى المملكة. أخبرنا الفنان ليبمان، أنه دخل المملكة العربية السعودية من اليمن في عام 1964، وتوجه إلى الطائف وصور مناظرها، ورسم تلك اللوحة لأحد مساجدها وهي لمنارة مسجد العباس الشهير. ولكونه دخل البلاد بطريقة غير نظامية، فتم توقيفه، وتسفيره. ولمعرفتنا بسلامة نيته، وعشقه لتاريخ وتراث المملكة رحبنا به، ووجهنا له دعوة لزيارتنا في المملكة وناقشنا معه إمكانية قيامه برسم لوحات فنية لبعض المعالم في عدد من مناطق المملكة. بدأت رحلتنا مع «مجموعة التوحيد» بعد قدوم الرسام ليبمان والاتفاق معه على رسم مجموعة من اللوحات لمناطق مختلفة من المملكة بهدف تدوين الجمال، والتاريخ العظيم الذي من به المولي على هذه الأرض المباركة. بدأنا رحلتنا الأولى مع الفنان من الطائف، حيث كانت صدفة جميلة بما أن الطائف كانت نقطة التلاقي الروحاني الأول، وما أجمل صدف الحياة حين يجمعها هدف نبيل، ليدون في مسيرة الإنسان، عطاء يطرزه الفن ليدوم ويبقى. بدأنا متكلين على الله من الطائف إلى الباحة ثم عسير وعدنا إلى جدة عن طريق القنفذة والليث. عاد الفنان إلى مقر إقامته في نيويورك، ليبدأ بتحويل انطباعاته التي دونها بالصورة والرسم التخطيطي (السكتش) من المناطق التي زرناها، إلى لوحات فنية تعكس أحاسيسه تجاه ما شاهد ولمس وتخيل. بعد عدة أشهر من دراسته لما شاهد، وبعد تواصلنا معه، ومناقشة مواضيع اللوحات، أرسل لنا عدة تخيلات لتوجهه في التعبير باللون والريشة عن أحاسيسه تجاه ما شاهد من جمال أودعه المولى في أرضنا المباركة. قدم جيرهارت إلى المملكة، وكان هناك توجه جديد، بعد الاجتماع مع مسؤولي الآثار، فقد أثرى المشروع الأخ الدكتور عبدالله المصري، المسؤول عن إدارة الآثار والمتاحف التابعة لوزارة التربية والتعليم آنذاك. فبعد اجتماعنا قررنا اختيار أهم المواقع الأثرية، في أنحاء المملكة، وبدأت الرحلات من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق لتسع سنوات أنجز فيها الرسام ما يقارب الستين لوحة. مرت الأيام وتوالت الرحلات، واتصلنا بعدد من الفنانين السعوديين، حيث كان هدفنا ولا زال أن يشارك فنان من كل منطقة بمحاكاة إبداع الفنان الأميركي بلوحات مماثلة وبريشة محلية، كما قمنا والسيد جيرهارت في ذلك الوقت بالتواصل مع الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، حيث كان التخطيط لتطوير مطار الرياض القديم ليكون متنزها ومركزا حضاريا وثقافيا للرياض، وتقدمنا مع الفنان بتصميم لفكرة إقامة متحف للفنون المعاصرة، وما زلنا نأمل بذلك. في عام 1993، مرض الفنان جيرهارت ليبمان وتوفي في نيويورك، وتوقف المشروع وكانت حصيلة مسيرتنا معه ما يقارب الستين لوحة غطى بها معظم مناطق الوطن الحبيب. ومرت عدة سنوات إلى أن أيقظت دعوة الاحتفالية بالمئوية رسالة «مجموعة التوحيد» لتحيي عمل فنان غربي آمن وأحب وصدق في عطائه لوطن يستحق كل العطاء. رفعنا بمقترح إلى مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أعانه المولى ورعاه عندما كان أميرا لمنطقة الرياض والمسؤول الأول عن الاحتفالية، بأن نتولى تنظيم معرض «مجموعة التوحيد» في حصن المصمك التاريخي، حيث هو المعلم الشاهد على بداية مسيرة التوحيد، فكانت بداية الحوار مع المسؤولين عن تنظيم الاحتفالية في بهو المصمك، غير أنه ولأسباب فنية وتقنية، برروا عدم إمكانية عرضه لأنه قد تم ترميم حصن المصمك وربما أن عرض اللوحات سيؤثر على الترميم، ولتعارضه مع فعاليات أخرى، لم نتمكن من الحصول على موافقة لتنظيم المعرض. في هذه الأثناء، ومع تصميمنا أن هذا المشروع قد قدُّر له أن يكون جزءا من رسالة المئوية تمت الاستعانة بالفنان المصور البرازيلي (أمبيرتو ديسلفييرا) ليقتفي أثر الفنان جيرهارت للمواقع التي زارها ورسمها، ليوثقها بالصورة الفوتوجرافية، وباللون الأسود والأبيض، فكانت المحصلة هي الحقيقة والخيال. اكتملت فكرة العرض، وكان إصرارنا على ربط هذا الحدث بالمؤسس العظيم، الملك عبدالعزيز طيب لله ثراه حيث لم نتمكن من ربطها وإقامتها في موقع بداية التوحيد، فكان موقع نهاية التوحيد هو من احتضن تنظيم معرض «مجموعة التوحيد»، تقديرا ووفاء للوطن بتلك المناسبة. وهنا تبدأ قصة العرض لمعرض «مجموعة التوحيد»، بعد أن تقدمت إلى سيدي الأمير ماجد بن عبدالعزيز أمير منطقة مكةالمكرمة رحمه المولى رحمة واسعة ورحب بأن تحتضن منطقة مكةالمكرمة هذا المعرض بمناسبة المئوية، فوجهنا لزيارة مركز الملك عبدالعزيز بأبرق الرغامة، وكانت فكرة العرض في هذا الموقع فكرة مميزة لأن هذا الموقع رمز ومعلم لنهاية توحيد المملكة العربية السعودية، فهنا ربما يسجل التاريخ آخر انتصار للحصان كقوّة، ضد قوة الحصان، حيث كان الملك عبدالعزيز محاصرا لمدينة جدة، بخيله، وجماله، ضد قوة الشريف بمدرعاته وطائراته. وهنا كانت آخر معركة حيث سل الموحد سيفه محاربا الجهل، والفقر، والمرض، ولم يغُمد على يد أبنائه إلى يومنا هذا. لم نتمكن من إقامة المعرض في أبرق الرغامة، لعدم اكتمال المبنى، والتجهيزات، ولم يكن هناك وقت كاف لإكمالها، فكان اختيار «بيت نصيف» هو قدرنا، وما أجمله من قدر. بيت نصيف احتضن المؤسس العظيم، حيث ذكريات جمع الكلمة، وتوحيد البلاد، واكتمال مسيرة التوحيد. أخذنا زمام المبادرة، وبتعاون نخبة من الأصدقاء ومحبي التراث، بترميم بيت نصيف، وأكملنا التجهيزات المناسبة لتجعل من البيت التاريخي مكانا مناسبا لمعرض فني على درجة عالية من التحضير، والإخراج الذي يشهده المكان لأول مرة، واستقبال الزائرين وراحتهم. كان يوم 11 /10 /1419 يوما بقي وسيبقى في ذاكرة «أصدقاء التراِث»، حين شرفنا المغفور له بإذن لله الأمير ماجد بن عبدالعزيز أمير منطقة مكةالمكرمة في تلك الأمسية الجميلة بافتتاح «معرض التوحيد»، ببيت نصيف، وبقيت هذه المناسبة تجمعنا أصدقاء وأحباء، مخلدين ذكراها في بيت نصيف، بيت التاريخ والتراث في كل عام منذ افتتاح المعرض في ذلك التاريخ، ونلتقي منذ ذلك الحين، وفي كل رمضان، نتناول طعام الإفطار على سطح المنزل والاستمتاع بسماع مؤذني مساجد جدة التاريخية يرفعون نداء الحق من جميع الزوايا مرددين لله أكبر لله أكبر. وفي هذه السنة التي توافق الذكرى العشرين لتنظيم «معرض التوحيد» وبإذن لله وتوفيقه وبمبادرة لجمع «أصدقاء التراث» بالتعاون مع «ليان الثقافية» نتشرف بعرض كتاب التوحيد، الذي يجمع بين دفتيه لوحات وصور «معرض التوحيد»، وبتبنيها طباعة نسخة جديدة محدثة من الكتاب بمناسبة مرور عشرين عاما على معرض «التوحيد»، وسيذكر «أصدقاء التراث»، تلك المناسبة الجميلة، وبإذن لله سيستمر هذا اللقاء السنوي في رمضان المبارك، في رحاب بيت نصيف وفي قلب جدة التاريخية. جدة هي من شرفتنا بعبق تاريخها، وحققت تلك المعاني السامية في إبراز تراثنا وحضارتنا، جدة هي من جمعتنا بحبها، وقربتنا كأصدقاء، وزملاء، وجدة هي نافذة، بل بوابة لإحياء ثقافتنا وإبراز رسالتنا إلى العالمين. اعتذار كتبت هذا المقال لنشره قبل لقائنا في بيت نصيف ككل عام، ولعرض كتاب التوحيد بمناسبة مرور عشرين عاما على معرض «التوحيد»، لكني أعتذر للإخوة الزملاء والأحباء «أصدقاء التراث» لعدم تمكننا من اللقاء لأسباب خارجة عن الإرادة، تتعلق بالمنطقة التاريخية.