يحمل الخلل السكاني في مفهومه كثيرا من المدلولات والتفسيرات العلمية في الدراسات السكانية والتنموية، والذي ينجم نتيجة نوع وطبيعة السياسات السكانية الموجهة نحو جميع القطاعات المعنية بالتنمية والسكان ومدى مناسبتها للمتغيرات المستمرة؛ وتمثل الإحصاءات الوطنية الدقيقة أهمية قصوى في ذلك الجانب؛ للاستفادة منها في وضع السياسات الناجحة وصنع القرارات المناسبة، بناء على ما يتم رصده عن الواقع السكاني بجميع تفاصيله وخصائصه بشفافية؛ يمكن الاعتماد عليها في وضع محتوى وتفاصيل خطط التنمية الوطنية، والرؤى الاستراتيجية للقطاعات المختلفة في الدولة. يشمل الخلل السكاني العديد من المتغيرات المتعلقة به، منها ما يتعلق بالتركيب العمري للسكان أو النوعي أو ذلك الخلل المتعلق بالجنسية والقوى العاملة وغيره، ويؤدي عدم التوازن في أحدها إلى خلل في التركيب السكاني والتنموي بجملته في حال عدم استدراكه بسياسات سكانية مناسبة، بسبب قوة الترابط والعلاقات المتداخلة بين تلك المتغيرات؛ والذي يؤدي بدوره إلى وجود تحديات تنموية وأمنية مختلفة، تتصل بمنظومتي السكان والتنمية في جميع قطاعاتهما. يعد الخلل السكاني الناجم عن الخلل في هيكل القوى العالمة والموارد البشرية لسوق العمل لصالح غير المواطن؛ من أهم الملامح السكانية والمؤثرات التي تشكل الخلل في الواقع السكاني لدول مجلس التعاون الخليجي جميعها؛ بسبب تقارب ظروفها التنموية، والذي ترتب عليه كثير من التحديات الأمنية والتنموية على حد سواء. يؤدي الخلل في هيكل القوى العاملة لصالح «غير المواطن»، إلى خلل في التركيب السكاني برمته، النوعي والعمري والخلل المتعلق بالهوية والجنسية، وذلك نتيجة لارتفاع نسبة الشباب الذكور في القوى العاملة غير المواطنة مقارنة بالإناث، والذي يعني انبعاجا في الهرم السكاني المكون للدولة، لصالح الذكور من الفئة الشابة «بصفة خاصة»، والذي يعني تباعاً؛ تضاؤل الفرص المتاحة للشباب «المواطنين» في سوق العمل، وزيادة نسبة بطالتهم في تلك الفئة العمرية الشابة؛ وحرمانهم من الخدمة الوطنية. ارتفاع نسبة الذكور الشباب في مجتمع، يعني مزيدا من الخطورة الأمنية ذات الصلة بالأمن الداخلي، والمرتبطة بسلوكيات الشباب وتجاوزاتهم المعروفة، والتي كثيراً ما تؤدي إلى مخالفات أمنية وتعديات تهدد الأمن المجتمعي والاستقرار الأسري، ذلك جميعه يتطلب تأهبا أمنيا مستمرا، ومتابعات مجتمعية للفئات الشابة، سواء العاملة منها أم المتعطلة عن العمل؛ للحد من مشكلاتهم والسيطرة على انتهاكاتهم التي أصبحت تشغل الجهات الأمنية، وتقلق المجتمعات والأسر، وتهدد استقرارها. تشير الإحصاءات الوطنية في سنواتها الثلاث الأخيرة إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة الذكور إلى الإناث ومن الفئة الشابة تحديداً، ففي عام 2018 كان جملة الذكور 19.24 مليونا، والإناث 14.17 مليونا، وفي عام 2019، أصبح الذكور 19.73 مليونا، والإناث 14.47 مليونا، وفي عام 2020 ارتفع عدد الذكور إلى 20.23 مليونا، بينما الإناث 14.78 مليونا. يتضح من بيانات تقديرات السكان في عام 2018، ذلك الارتفاع في نسبة الذكور الشباب من «غير المواطنين»، مقارنة ب«المواطنين»، لأن هذا الإحصاء هو الأخير- للأسف- الذي توقف عنده تصنيف تقديرات السكان من حيث الجنسية، واقتصر فيما بعده على التركيب العمري والنوعي للسكان، فكان عدد الذكور فيه من غير المواطنين 8.66 ملايين، بينما المواطنون 10.57 ملايين. وبمقارنة التقديرات المتوالية للسكان منذ عام 2000 حتى 2018، يتضح أن هناك تراجعاً مستمراً في نسبة المواطنين لصالح غير المواطن، والذي استمر في التصاعد المستمر لنحو عشرين عاماً، فبعد أن كان نسبة «غير المواطنين» في السعودية تصل إلى %25.22 في عام 2000، ارتفعت نسبتهم إلى %27 في عام 2007، ولتزيد النسبة وبقوة إلى %36.7 في 2016، وبفارق تصاعدي يصل إلى نحو %10، ولتصبح %37.3 في 2017، و%37.8 في عام 2018؟! قد تكون البيانات الإحصائية موجعة ومؤلمة أحياناً، بل ولا تقارب توقعاتنا الظاهرية والمأمولة؛ ولكنها تظل الوسيلة والأداة الأساسية التي تكشف لنا مكامن الخلل، والمصدر الذي يفسر لنا أسباب كثير من التحديات التي تواجهنا؛ وعليه فإننا نتطلع لمستوى أكثر شفافية وتفصيل في مسح ونشر البيانات الإحصائية الخاصة بالخصائص السكانية وتقديراتها، والمسوحات المعنية بالقوى العاملة. معالجة الخلل السكاني وإصلاح السياسات فيه؛ مرهون بتوفير البيانات الرقمية الصحيحة والعميقة المفصلة، وعدم تغييبها عن الباحث وعن المسؤول؛ لأهميتها القصوى في رصد وتقييم حقيقة الواقع السكاني بمختلف مكوناته وخصائصه، للوقوف على ما يرتبط بذلك من تداعيات هيكلية، وما يتولد عنه من تحديات نعيشها على المستوى التنموي والأمني، وما تتطلبه المعالجة الصحيحة من سياسات إصلاحية، وتشريعات وقوانين ضابطة ومدروسة تعنى بتفاصيل تلك التحديات ونوعيتها. تجاهل الدراسات السكانية أو التقليل من أهميتها وعدم الاكتراث بنتائجها العلمية وتوصياتها المدروسة، ينعكس سلباً على مستوى جودة ونجاح السياسات السكانية المنفذة ومدى ملاءمتها لما نواجه من تحديات، وإذ تشكل الإحصاءات الدقيقة بتفاصيلها وشفافيتها؛ القاعدة التي ترتكز عليها الدراسات السكانية والديموغرافية، والمجهر الذي يحدد مكامن الخلل ونوعيته، فهي البوصلة والمؤشر لما يتطلبه ذلك من قرارات موجهة وسياسات تنموية مناسبة، تُعنى بها جميع القطاعات المسؤولة عن السكان والتنمية وما يتعلق بهما من تحديات تنموية وأمنية مختلفة. نقلا عن الوطن السعودية