قضية القدوة الحسنة وأثرها في تخليق الناس قضية لا يمكن أن يبحث عنها إلا من له اهتمام كبير بالشأن الحياتي، وكل من يرى أن أسباب العودة إليها أمر لازم، وبشكل عاجل غير آجل، خاصة بعد أن غابت القدوات الحسنة في غالب المجتمعات اليوم، وكبداية أذكر أن بين لفظتي «الإسوة» و«القدوة» تقارب في المعنى العام؛ فالذي يقتدي بأحد يتخذه أصلا ومثالا في حياته، أما الإسوة فمعناها الخصلة أو الحالة التي يكون عليها الفرد، وهي ما يتأسى به فيقتدى به. من أهم خطوات إشاعة موضوع القدوة الحسنة بين الناس، القيام بمزيد من العناية بالمؤسسات التربوية والتعليمية، وتفعيل دور وسائل الإعلام المختلفة، والعناية التامة والكاملة بالمجتمع المدني، والاهتمام الجاد بمكافحة كافة أنواع الفساد، والاهتمام البالغ بما دعت إليه التعاليم السماوية من أمور تنظيم العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، وأخيرا وليس آخرا الاهتمام بصناعة قدوات حسنة. نعم، القدوات اليوم ينبغي أن تصنع، وعندما أذكر لفظة «صناعة» فهذا من أجل أهمية الأمر، ولأن صناعتها من أهم وأخطر الصناعات التي يُتوصل بها لتقدم الأمم والمجتمعات، ولأنها المعينة على بناء السلوكيات الحسنة لدى الناس، وللفت النظر لما ينبغي أن يقوم به المعنيون بهذا الأمر الجلل، كمثل إيجاد البيئة السليمة النظيفة لاحتواء المتميزين بالخصائص الفريدة، والصفات الحسنة، وتوجيههم، وإزالة العوائق التي تعترضهم، ورعايتهم ماديًّا وكذا معنويًّا، ليكونوا بعد ذلك قدوات حسنةً للآخرين، وشخصيّات مؤثِّرةً في سلوكيات الناس، وليس في مظاهرهم الزائفة، وزخرفات حياتهم البالية. يذكر الإمام الحاكم النيسابوري في كتابه (المستدرك على الصحيحين)، في الحديث رقم 5005، وكذا الإمام أبو نعيم الأصبهاني، في الصفحة 250، من الجزء الأول، من كتابه الشهير الجميل «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء»، أنه رُوي عن سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه كان جالسًا بين أصحابه يومًا فقال لهم: «تَمَنّوا»، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أُنفقه في سبيل اللَّه وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءةٌ زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل اللَّه وأتصدق، ثم قال عمر: «تَمَنَّوْا» فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: «أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراحِ، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان»، وكان رضي الله تعالى عنه يقول: «وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به في أعمال المسلمين». أختم مقالي بأن القدوة الحسنة إذا طبقت تطبيقا أمثل، وصارت قيمة مشاعة بين الأجيال وفي مختلف شؤون حياتهم، ستسري المحاسن والمكارم حتما إلى كل مناحي الحياة العامة، لا سيما أن التغيير الإيجابي متوقف على تغيير أحوال النفوس، وأولى الناس بتخليق الحياة العامة هم العلماء وأولياء الأمور والمعلمون والكتاب ومن لهم علاقة بالشأن العام؛ من قريب أو بعيد، شريطة أن تجمعهم جميعا الرغبة الصادقة في حماية وصيانة الآداب والمكارم، وحينها يمكن الإجابة عن كثير من الأسئلة الملتهبة الحائرة، وفي المقدمة منها: هل غابت القدوات؟ أم أنها غُيِّبت وهُمشت؟ وهل فعلا تصدر التافهون مشهد الناس؟ أم أن ذلك مطلوب ومقصود؟. نقلا عن الوطن السعودية