تكلم العرب قديما عن قطع اللسان كناية وتورية وليس حقيقة وفعال، وكان الشعراء أكثر الناس عرضة لقطع األلسن، وهو قطع ال ينزف دما بل ينزف ماال وثروة يبحث عنها الشعراء فتزداد ألسنتهم طوال ومطامعهم عرضا، وتمتد رحالتهم شرقا وغربا للبحث عن قطع اللسان. واللغة العربية كثيرة الكنايات والتورية، ولعله ال توجد كلمة صريحة مباشرة ال تحتمل إال معنى واحدا ال غيره، كل كلمات اللغة هي في واقعها استعارة أو كناية أو وصف لشيء كان وشاع حتى نسي الناس المعنى األول ولم يعد يعرفونه عندما تقال الكلمة بداللة مختلفة عما كانت عليه في استعمالها األول، وال سيما في معاني العبادات والممارسات الشخصية، فالصيام ونحن حديثو عهد برمضان يعني التوقف واالمتناع وال عالقة له برمضان وصومه. وقل مثل ذلك في معنى الصالة والحج والزكاة، وكل العبادات هي مصطلحات حادثة في اللغة ما كانت في أصل استعمالها وال كانت تعني ما تعنيه مما اصطلح عليه الناس اليوم، ولو سألت إنسانا من أهل الجاهلية عن هذه المعاني ألخبرك بشيء ال تعرفه أنت، ولو أخبرته عما تعنيه عندك اليوم لما عرف شيئا مما تقول. لكن ما يدل على معنى الكلمة وتحوالتها هو السياق والعرف الجاري والمترادفات، وأهم من ذلك المدرك الحسي واالصطالح واطراده لدى الناس. سبب هذه المقدمة ما يدور في الساحة هذه األيام من جدل حول القطع في اآلية الكريمة )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما( ومحاولة المتكلفين من أن القطع هنا هو مثل القطع الذي بدأت به هذه الكلمة، أي قطع لسان الشاعر حتى ال يهجو الممدوح لو قصر في عطائه، ويقولون على القياس والعهدة عليهم : إن قطع يد السارق في اآلية هو منعه من السرقة، ومماحكة معهم ال موافقة لهم فيما ذهبوا إليه نسألهم كيف يقولون في اآلية التي يسمعونها كثيرا في تنفيذ بعض األحكام )إنما جزاء الذين يحاربون اهلل ....أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خالف ( فكيف يحتالون لقطع األرجل هنا؟. ال شك أن فيهم خيرا وقد نظروا في النص فوجدوه صريحا وأن نص القرآن واضح فحاولوا تأويله بالمنع بدل القطع خشية أن يتهموا بتعطيل النص القرآني، وعواقب ذلك خطيرة. ولو علموا بعمل عمر وإجماع الصحابة رضي اهلل عنهم على وقف العمل بنصوص من القرآن الصريحة التي ال تقبل التأويل ولم تعد الحاجة داعية إليها أو لزوال سببها لوجدوا لقولهم لوقف قطع يد السارق في هذا الوقت حجة وأسبابا كثيرة دون التكلف والخروج على ما تقتضيه اللغة والسياق والفهم لآلية. وإليكم هذه اآلية )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اهلل وابن السبيل فريضة من اهلل واهلل عليم حكيم(. هذا نص قرآني صريح ال يحتمل التأويل، ومع ذلك فقد أوقف الخليفة عمر بن الخطاب العمل بنصاب المؤلفة قلوبهم ووافقه الصحابة باإلجماع على ذلك ولم يروا أن اذلك تعطيال للنص القرآني بل هو تقدير لمصلحة اإلسالم العليا، وزوال الحاجة إلى المؤلفة قلوبهم جعلهم يوقفون العمل بنص القرآن الصريح الواضح الذي ال لبس فيه وال اختالف في داللته، وال يحتمل تأويال غير معناه المباشر ، ومثل هذه اآلية آية أخرى أوقف عمر العمل بها ووافقه الصحابة باإلجماع أيضا ولم يعدوا ذلك تعطيال للنص القرآني تلك هي آية الخمس )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن هلل خمسه وللرسول ولذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم باهلل وما أنزلنا على عبدنا ...( حتى إن عليا عليه السالم كان يطالب بخمس ذوي القربى ، فلما صارت الخالفة إليه أعمل ما أجمع الصحابة عليه ولم يعد الخمس إلى ذوي القربى . هاتان آيتان صريحتان ال تحتمالن تأويال غير ما نصتا عليه، وقد أوقف الصحابة العمل بهما ولم يزعم أحد أنهم رضي اهلل عنهم عطلوا القرآن ولم يعملوا بنصه . وأوقف عمر القطع في عام الرمادة وهو قول شائع مشهور عند الفقهاء. ونأتي إلى قضية اليوم وهي حكم قطع يد السارق التي لم يعد يعمل به أحد غير داعش وأمثال داعش، ونقول ليس في مصلحة المسلمين وال مقاصد اإلسالم إعمال الحكم بالقطع اليوم، وقد تيسرت ظروف يمكن بها منع السارق وتعطيل عمله دون قطع يده فيتحقق القصد، وهو المنع وتسلم األيدي من القطع، زادكم اهلل تدبرا للقرآن وفقها لمقاصده. نقلا عن صحيفة مكة