ثمة اتجاهان تنازعا مسألة "عرض مسلسل الفاروق"، والذي أعلنت بضع قنوات فضائية أنها بصدد عرضه خلال رمضان الحالي، أحدهما محافظ سعى من خلال حملة تولى كبرها مثقفون وكتاب ووعاظ، بل وأساتذة جامعات، إلى منع عرضه بحجج، منها "حرمة" تمثيل شخصيات الصحابة، وخوفهم، أو بعضهم، من أن يمتد هذا "الضرام!" إلى الرسل أنفسهم، فتمثل شخصياتهم يوما على الفضائيات. ولربما انطلق بعضهم من أنه لا يليق بأن يقوم ممثلون موغلون في الفحش الدرامي، أو أنهم على غير دين الإسلام، بدور بطل من أبطال الإسلام، كعمر بن الخطاب. أما الثاني، وهو يرى نفسه (تقدميا!) مسايراً لمنطق العصر، فلا يرى غضاضة في عرضه، انطلاقاً من أنه لا يوجد نص، صريحا كان أم ضمنيا، قطعيا كان أم ظنيا، يحرم تمثيل الصحابة. لكن أياً من الطرفين، وهذا ما يحز في نفس المسكون بهاجس أمته، لم يرجع البصر كرتين فيما يجب أن يعرض من سيرة شخصية كشخصية عمر بن الخطاب. ..ثمة نماذج من سيرة الفاروق، نحن اليوم بأمس الحاجة إلى بعثها من مرقدها، وخاصة منها: 1 ما يتعلق بالعلاقة مع الآخر (التسامح الديني)، إذ نضرب نحن المسلمين اليوم بسهم وافر من الكراهية الدينية، لا مع المخالفين في الديانة فحسب، بل حتى مع المختلفين معنا في المذهب. 2 المواءمة بين نصوص المعاملات ومصالح العصر، لأن تلك النصوص، وهذا ما فهمه الفاروق، لا يمكن أن تعمل في فراغ، بل لها شروط إعمال، إذا لم تتوفر، أم لم يعد السياق ملائما لها، لم يعد ثمة مجال لتطبيقها. 2 إقرار مبدأ المساواة بين الناس، ومن ثم قطع دابر العصبية القبلية والمذهبية والدينية، وهي أدواء لما تزل تحيط بالمعصم الإسلامي. إذا كانت الثورة الفرنسية، بصفتها إنجيل الحضارة الغربية المعاصرة، تفتخر بقيم التنوير التي رسختها في العالم الغربي المعاصر، وأهمها قيم: التسامح، والمساواة، والحرية، والإخاء، إضافة إلى ما أنجزته في مجال القراءة التاريخية للنصوص المقدسة، فإن في سيرة الفاروق رضي الله عنه سلفاً لتلك القيم، حريّ بنا نحن المسلمين أن نبرزها في أي عمل درامي يمثل شخصيته. عندما نتحدث عن العلاقة مع غير المسلمين، لا بد أن نستدعي إلى الذاكرة ما تعرف ب" الشروط العمرية"، بصفتها أقدم وثيقة تاريخية، بعد وثيقة"صحيفة المدينة"، تؤسس للتعايش بين الأديان المختلفة. فلقد أبرم عمر رضي الله عنه اتفاقية مع أهل إيليا (= القدس)، عندما فتحها جيشه في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، كان ملخصها: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم ولأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم..... وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إلخ،". إنها، كما نرى، وثيقة لا تعترف بحق المسيحيين في التماهي مع دينهم وأماكن عبادتهم فحسب، بل وتحظر محاولات تخريبها أو الانتقاص منها، فكيف بتفجيرها وهي تكتض بالمصلين؟ أما عندما نتحدث عن ضرورة استصحاب الشروط المناسبة ( تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا) لتطبيق النصوص المعاملاتية، فلا مناص من أن نتذكر قيامه رضي الله عنه بإيقاف تطبيق حد السرقة في عام الرمادة، حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس إلى السرقة بسبب الجوع. بل إن ثمة حادثة أبلغ في هذا الخصوص، وهي حادثة قيام غلمان لحاطب بن أبي بلتعة بسرقة ناقة لرجل من مُزَيْنَة، فعندما أتى عمر بهم أقروا بسرقتهم، فأمر عمر كثيرَ بن الصلت بقطع أيديهم، فلما وَلَّى ردَّه ثم قال: "أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى إن أحدهم لو أكل ما حَرَّمَ الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم"، ثم وجَّه القول لحاطب قائلا: "وايم الله إذ لم أفعل ذلك لأُغَرِّمَنَّك غرامة توجعك"، ثم قال: يا مُزَنيُّ، بكم أُريدتْ منك ناقتُك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر لحاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة". ومن تحريه رضي الله عنه توفر الشروط المناسبة لتطبيق النص، قيامه رضي الله عنه بإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، رغم نص القرآن عليه في قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم"إلخ، وقولته المشهورة: "إن رسول (ص) كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، أما اليوم فالإسلام عزيز لا يحتاج معه إلى تأليف قلوب مثل هؤلاء". ومنها قيامه أيضا بإيقاف توزيع أرض سواد العراق على الفاتحين، رغم نص القرآن عليه في قوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول" إلخ الآية، وذلك نشدانا منه للتوازن الاقتصادي، وبالذات فيما يخص الأجيال القادمة. وإذ يقوم الفاروق رضي الله عنه، وهو أخشى منا لله وأتقى له، بإيقاف أحكام وتشريعات جاءت بها نصوص قرآنية قطعية الدلالة لا تحتمل التأويل، فإننا نحن مسلمي اليوم لم نجرؤ على أن نخرج الأرز في زكاة الفطر إلا منذ سنوات خلت، فلقد كنا حينها نخشى الله إن عَدَلْنا إلى غير ما جاء به النص من البر أو الشعير أو الأقط أو التمر، أن يصيبنا الله بعذاب من عنده أو بأيدينا!. وعلى صعيد مبدأ المساواة بين الناس، الذي دشنه الإسلام، في عصر كان مجرد نقد الطبقية القبلية فيه ضربا من المستحيل التفكير فيه، نتذكر بعض التطبيقات العمرية العملية. فلقد كان المسلمون في عهد عمر ثلاث طبقات: طبقة عليا مؤلفة من القبائل القرشية، وطبقة دونها مؤلفة من سواد الأعراب: أبناء القبائل البدوية، وطبقة سفلى هي طبقة الموالي. ويتجلى التطبيق العمري لمبدأ المساواة، لا بمساواة الطبقة الثانية (الأعراب ومن في حكمهم) بالطبقة العليا: القبائل القرشية، وخاصة ذؤابتهم، كبني أمية وبني هاشم وبني مخزوم فحسب، بل، وبمساواة أبناء هاتين الطبقتين بطبقة الموالي. فقد عين عمار بن ياسر واليا على الكوفة، كما عين سلمان الفارسي واليا على المدائن. ويعلق عالم الاجتماع العراقي الدكتور:علي الوردي على هذين التعيينين العمريين بقوله" ونحن نسمع بهذا الخبر اليوم فلا نهتم به، ولكنه كان غاية في الأهمية، سيما في نظر قريش، فليس من الهيِّن عليها أن ترى عبدا من عبيدها السابقين يتولى عليها، ويحكم مصراً من أكبر الأمصار الإسلامية". كما يتجلى التطبيق العمري أيضا في قصة قدوم وفد من نبلاء قريش فيهم أبو سفيان، وسهيل بن عمرو، وجماعة، ووقوفهم على بابه يستأذنونه في الدخول، فلم يأذن لهم، وأذن لبلال وصهيب، وهما، كما يقول الوردي، موليان فقيران، فتورم أنف أبي سفيان من هذه المهانة وقال حانقا:" لم أر كاليوم قط يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه!". بل إن ثمة درساً عُمرياً في المساواة أمام القانون، خليق بأن تفرد له الصحائف، فلقد أحال رضي الله عنه خالدَ بن الوليد (أحد أكابر قبيلة بني مخزوم: القبيلة القرشية الكبرى) إلى المحاكمة، بسبب ما كان يهبه الشعراء من جوائز على شعرهم. وخلال المحاكمة، سأل عمر خالداً عن تلك الهبات: أهي من حر ماله أم من بيت مال المسلمين؟ فحار خالد جوابا، فقام إليه بلال الحبشي في تلك الأثناء، فتناول عمامته ونقضها ثم شده بها وخالد لا يستطيع منعه. ويعلق الوردي على تلك الحادثة بقوله:"إن هذا أمر يسهل علينا تصوره الآن، بعد أن أصبح بلال في نظرنا قديساً عظيما. أما في ذلك العهد، فكان أمراً هائلاً تنخلع له القلوب، عندما يقوم عبد أسود إلى بطل من أبطال قريش، وزعيم من زعمائها، فيأخذ عمامته من على رأسه، ويعقله بها وهو لا يتكلم، ولا يمانع". لمثل هذه النماذج من سيرة الفاروق فليعمل العاملون، ولينتج المنتجون، وليتنافس الفضائيون، وليختلف المختلفون، لا أن نكون كما فقهاء بيزنطة، نختلف حول (حكم) تمثيل أشخاص الصحابة، وإذا وجدنا مخرجا شرعيا لذلك، انشغلنا بعرض نماذج من سيرهم، لا تتوافق وحاجات عصرنا، كتجييش الجيوش، وتمصير الأمصار وبعث السرايا، وقيام المعارك بين المسلمين و"الكفار"، فمثل تلك المشاهد لن تزيدنا نحن المسلمين إلا غربة عن حضارة العصر، بل، وإلى "شرعنة" هذا الاغتراب، بربطه بسيرة تاريخية ماضوية مقدسة، وسيتساءل النشأ التي سيشاهد تلك المسلسلات: لماذا نحن كقعدة الخوارج، ما لنا لا نخرج لنجاهد الكفارَ والمنافقين كما كان سلفنا الصالح يفعلون؟ لكنه إذا يمم وجهه نحو العصر، رأى دولاً قومية مستقلة تُحرِّم على غيرها التدخل في شؤونها، ومن ثم ينشأ ناشئ الفتيان فينا منشطر الشخصية بين ماض لا يرتفع، وحاضر يفرض منطقه على من يريد العيش فيه.