بينما كنت أدرسُ في بريطانيا كان لي صديق برازيلي، سألني ذات يوم عن مستقبل ابني مُشْرِف وماذا أخطط له؟ تعجبتُ من سؤاله لأنّ (مشرف) يومها لم يتجاوز الرابعةَ من عمره! قلت له: بدري! فقال لي: ابني الآن في السادسة من عمره، وقد خططتُ له ليكون مهندساً تقنياً؛ وبدأت أعده لذلك منذ الآن؛ لأنّ رؤية بلادنا 2020 تركّز على الجانب التقني. ما لفتني في حديث الصديق البرازيلي هو هذا التناغم الفعَّال بين (المجتمع البرازيلي) والرؤية الاقتصادية للحكومة البرازيلية، تناغمٌ بلغَ حدَّ تأطير الوجهاتِ التربوية والعلمية والأكاديمية للأطفال لتدعم رؤيةَ البلادِ وتستفيد منها في الوقت نفسه. ومن المؤكد أنه لا يمكن لرؤية ما أن تنجح إذا لم نتمكّن من خلق (مجتمعٍ) يؤمن بها، ويقتنع بأهميتها، ومن ثمّ يبني مشاريعه وخططه وبرامجه على ضوئها. لقد دشَّنتْ بلادنا العزيزة رؤية (2030)، وهي رؤيةٌ تقومُ في جوهرها على الانتقال من (اقتصاد النفط) إلى (اقتصاد المعرفةِ)، أو الانتقال من استثمار (كنوز الأرض) إلى استثمار (كنوز العقل)، لتحل بذلك الاختراعات والابتكارات محل الاستخراج والتكرير، وهذه النُّقلة الهائلة تحتاج لنجاحها إلى (مجتمعٍ) يتفهّمها ويتقبلها ويكيّف توجهاتِهِ وخططه المستقبلية معها. لا شك أن لمؤسسات التعليم العالي في المملكة دور مهم عن طريق توظيف البحث العلمي في تحقيق رؤية (2030)، وهناك الكثير من الأفكارِ لو تم تطبيقها أن تحوّل مجتمعنا من (مجتمع النفط) إلى (مجتمع المعرفة). ولعلّ مما يساعدُنا على هذا الانتقال المجتمعيّ أن نستذكر أننا أبناءُ أمةٍ علّمها دينها كيف تفكر؟ وكيف تتعلَّم؟ وكيف تبتكر؟ فنحو ثلث آيات القرآن الكريم التي يبلغ عددها (6236) آية - أي قرابة: (1100) -تحث على التفكير والتدبر والنظر. وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مليئةٌ بالحث على العلمِ واعتبارِهِ عبادةً وقربةً. وتاريخنا الحضاريّ ملؤُهُ العلمُ والعلماءُ، وكل منصفٍ من مؤرِّخي العلوم يشهدُ بأنّه لولا البصمة الإسلامية في التاريخ الحضاريّ الإنسانيّ لما وصلت البشرية اليوم إلى ماهي عليه. وقد سجّل العالم الأمريكي البلجيكي الأصل البروفيسور (جورج ستيوارت) المتخصص في تاريخ العلوم، والذي حملتْ اسمَهُ جائزة (ستيوارت لتاريخ العلوم)، سجل هذا العالمُ الكبيرُ شهادته المضيئة للحضارة الإسلاميةِ ودورها في ترسيخ المناهج التجريبية وتطوير حركة الاختراعاتِ المعرفية. نحن إذن أبناءُ دينٍ يحثُّ على المعرفة، وأبناء حضارةٍ قامتْ على المعرفة، وأبناء لغةٍ أحاطتْ بالمعرفةِ، فكيف لا نكون مجتمعاً يتفاعل مع المعرفة