لا تزال صفحةُ الماضي المُتمثِّلة بالحقبة الكولونياليّة الفرنسيّة، وحرب التحرير الوطنيّ الجزائريّة، تُلْقِي بِإِرْثِهَا وَحُمُولَتِها التاريخِيّة الثَّقِيلَة على مُستقبل العلاقات الفرنسيّة - الجزائريّة. في هذا الماضِي الكولونياليّ تَحْتَلّ الجزائر مكانةً خاصّةً، بسببِ المآسِي التاريخيّة التي حلَّتْ بالشَعْبِ الجزائري. في العام 2011 استطاع الأنثروبولوجي الجزائري علي فريد بلقاضي أن يكشفَ عن وجودِ جماجم لمُقاومين جزائريّين في متحف الإنسان في باريس، عندما كان يقومُ بِبَحْثٍ تَارِيخِيٍ حول المُقاوَمة الشعبيّة الجزائريّة للاستعمار الفرنسي، إِذْ تَمَّ قطْعُ رؤوس المُقاومين في سياقٍ انتقاميّ. وفي متحف الإنسان في باريس بقيت جَماجم المُقاوِمين أسيرة الاستعلاء الأوروبي. ويقول رئيس قسم الأنثروبولوجيا في المتحف، آلان فرومون، إنَّ 18 ألف جمجمة من مختلف مناطق العالَم موجودة في هذا المتحف، يعتبرها القانون الفرنسي من المُمتلكات الفرنسيّة العامّة، بما فيها جماجم الجزائريّين الموجودة في المتحف منذ القرن التاسع عشر، وعددها 36 جمجمة، 12 منها لقادةٍ في المُقاوَمة الجزائريّة ضدّ فرنسا. تعرّضت هذه الجماجم للتشريح وخضعَت للدراسة في تاريخ الأشخاص، والبحث عن أصل الإنسان وعن التطوّر البشري. كان الباحث الأوروبي، والفرنسي خصوصاً، يعتقد بتفوُّق الإنسان الغربي على بقيّة البشر. وفي شباط (فبراير) 2016، أطلق مثقّفون جزائريّون عريضةَ المليون توقيع لاستعادة جماجم المُقاومين من فرنسا ودفْنها في الجزائر. وفي السابع من كانون الثاني (يناير) 2018، أعلنت الحكومة الجزائريّة تقديمها طلب استعادة جماجم تعود إلى قادة المُقاوَمة الشعبيّة من متحف باريسي. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلن في زيارته الأخيرة إلى الجزائر في السادس من كانون الأوّل (ديسمبر) 2017 موافقته على إعادة الجماجم. وفي كانون الثاني (يناير) 2019، أعلنت السلطات الجزائريّة تحديد هويّة 31 جمجمة تعود إلى مُقاوِمين جزائريّين يحتويها متحفُ الإنسان في باريس منذ 150 سنة، كانت معروضة للجمهور، قبل أن يتمّ سحبها من قاعة المتحف. والجمعة 3 تمّوز (يوليو) 2020، استرجعت الجزائر 24 جمجمة تعود إلى مُقاوِمين وقادة المُقاوَمة الشعبيّة ضدّ الاستعمار في القرن ال 19، بينها جمجمة قائد المُقاوَمة الشعبيّة شريف بوبغلة المُلقَّب ب "الأعور"، واسمه الحقيقي محمّد الأمجد بن عبد المالك المدعوّ الشريف، وجمجمة مساعده مختار بن قويدر التيطراوي، وجمجمة الشيخ بوزيان زعيم ثورة الزعاطشة في منطقة بسكرة جنوبي الجزائر...إلخ. ويوم الأحد 5 تمّوز (يوليو) 2020، وُرِيَتْ جثامين 24 من المُقاوِمين وقادة المُقاوَمة الجزائريّة الثرى في مربّع الشهداء في مقبرة العالية في الضاحية الشرقيّة للعاصمة الجزائريّة، بعد مراسم رسميّة وعسكريّة أقيمت لهم بحضور الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وكِبار مسؤولي الدولة وقادة الجيش، حيث تزامنَ دفْن هؤلاء المُقاوِمين مع احتفال الجزائر بالذكرى 58 لعيد الاستقلال والشباب. وطالَب الرئيس تبون "الأجيال الشبابيّة الجديدة في الجزائر" ب "الاستذكار المُستمِرّ للشهداء"، وقال: "سنقف سدّاً منيعاً ضدّ كلّ محاولات استهداف الهويّة الوطنيّة"، وشدَّد: "شبابنا في أمسّ الحاجة لكي يَحفظ الدروس من الشهداء التي تُعزِّز عقيدة ثورة نوفمبر (ثورة التحرير) التي تحصِّن الوطن والدولة من التكالبات والمؤامرات".
مُطالَبة الجزائرفرنسا بحلّ الملفّات الأربعة في أيلول (سبتمبر)2018 ، أقرَّ الرئيس ماكرون بأنّ فرنسا أقامت خلال حرب الجزائر نظاماً استُخْدِم فيه التعْذِيب وأدّى إلى وفاة المُعارض الشيوعي أودان. وسَلَّمَ ماكرون أرملةَ أُودان بياناً في هذا الصدد، أعلن فيه فتْح الأرشيف الْمُتَعَلِّق بقضايا اختفاء مَدَنِيِّين وَعَسْكَرِيَّيْن فَرَنْسِيَّيْن وَجَزَائِرِيّينِ، علماً بأنّ حرب الجزائر لا تزال أحد الملفَّات الأكثر إثارَةً للجدل في تاريخ فرنسا الحديث. أمّا حكومة الجزائر فما زالت متمسّكةٌ بحلِّ أربعة ملفّاتٍ عالقةٍ، ولا تزال مطروحةً على الجانب الفرنسي، تتعلّق، بالإضافة إلى قضيّة المفقودين، باسترجاع كامل رُفَاتِ شهداء المُقاوَمة الشعبيّة، إذ استرجعت الجزائر 24 من رفات المُقاوِمين وقادة المُقاوَمة الجزائريّة وجماجمهم كدفعة أولى من ضمن 518 جمجمة جزائريّة ما زالت في متحف في باريس، بينما تشتغل لجانٌ عِلميّة مُشترَكة في الوقت الحالي على تحديد ما تبقّى منها، تمهيداً لاسترجاعها واستعادتها لدفْنها في الجزائر. وثمّة بين الملفّات الأربعة ملفّ الأرشيف الوطني الذي تُطالب الجزائر باستعادته من باريس. وتُطالِب الجزائرفرنسا بتعويضاتٍ عن ضحايا الألغام التي زرعها الاستعمار الفرنسي، بعدما سلَّمت تقريراً لمنظّمة الأُمم المتّحدة حول جهود نزْع الألغام الأرضيّة الموروثة عن الاستعمار الفرنسي، تضمَّن كشْفاً بأعداد ضحايا هذه الألغام منذ زرْعها قُبيل استقلال البلاد في الخمسينيّات من القرن العشرين، والذي يفوق السبعة آلاف قتيلٍ وعشرات المعطوبين. وكشف التقرير السنوي للجزائر لعام 2019، أنّ الألغام التي زرعها الاستعمار الفرنسي، وما زالت تقتل الضحايا حتّى الآن، خلَّفَتْ في مجموعها 7300 ضحيّة، بينهم 4830 ضحيّة مدنيّة جزائريّة خلال ثورة التحرير الوطني، و2470 ضحيّة بعد الاستقلال، فضلاً عن مئات المعطوبين الذين بُتِرَتْ أطرافهم أو أُصيبوا بإعاقات لا تقلّ عن نسبة 20 في المائة. وتُطالب الجزائر أيضاً، وفي السياق ذاته، بتعويض ضحايا التجارب النوويّة التي أجرتها فرنسا في منطقة رقان جنوبي الجزائر، بين عام 1958 إلى ما بعد الاستقلال، إذ ما زالت آثار الإشعاعات النوويّة قائمة حتّى الآن، وتسبَّبت في تلوّث الهواء والمياه، وكذا في ولاداتٍ مشوَّهة وتشوّهات خلقيّة وسرطانات وأمراض عيون. ووثَّق البروفيسور العبودي في كِتابه "يرابيع رقان.. جرائم فرنسا النوويّة في الصحراء الجزائريّة"، الذي صدر قبل سنوات، آثار ما وصفه ب "المحرقة النوويّة الفرنسيّة"، مُشيراً إلى أنّ مجموع ضحايا هذه التفجيرات على امتداد ثلاثة أجيال، قد يصل إلى 150 ألف شخص.
عقدة الماضي الكولونياليّ يُشكِّل الجنرال الفرنسي بول أوساريس، الذي توفّي في منطقة سراتسبورغ شرق فرنسا يوم 4 كانون الأوّل (ديسمبر) 2013 عن عُمرٍ يُناهز ال 95، والذي كان يعيش بعَيْنٍ واحدة، والمشهور بدفاعه عن استخدام القوّات الفرنسيّة للتعذيب في الجزائر، شخصيّة مثيرة للجدل في فرنسا. وكان أوساريس بطل المُقاوَمة ضدّ النازيّة خلال الحرب العالَميّة الثانية، أكثر الرجال تكتّماً عن الأمور في الجهاز الأمني الفرنسي، إذْ تولّى منصب رئيس الاستخبارات تحت قيادة الجنرال ماسو أثناء معركة الجزائر في العام 1957، وكان رجلَ الأعمال الشرّيرة والإعدامات بلا مُحاكمةٍ والتعذيب المنظَّم. وقد وَضَع أوساريس فرنسا مجدَّداً أمام الجرائم التي ارتكبتها قوّاتها خلال الثورة الجزائريّة. وفي كِتاب صدر في العام 2001 عن دار "بيران" الفرنسيّة، بعنوان:"الأجهزة الخاصّة. الجزائر 1955-1957"، اعترفَ الجنرال أوساريس بتعذيب 24 أسيرَ حربٍ جزائريّ وقتْلهم خلال حرب استقلال الجزائر عن فرنسا 1954-1962. أمّا الجديد الذي كشفه أوساريس في كِتابه، فهو أنّ هذه المُمارسات لم تكُن مجرَّد انتهاكاتٍ يتحمّل مسؤوليّتها العسكريّون المُنخرطون في المواجهات على الأرض، بل إنّها كانت تحظى بتغطيةٍ من المسؤولين السياسيّين في فرنسا، ولاسيّما من وزير العدل آنذاك الرئيس الراحل فرانسوا ميتران. وإذا كانت فرنسا قد فتحت خزائن الذاكرة التاريخيّة بسبب الجرائم التي ارتُكبت في الحرب العالَميّة الأولى 1914-1918، وفي الحرب العالميّة الثانية 1939-1945، حين تعاونَ نِظام الماريشال بيتان مع النازيّين، فإِنَّه آنَ الأوان لكي تَفتح الخزانة الثالثة للذاكرة التي تحتوي على جرائم ارتُكبت باسم فرنسا إبّان الثورة الجزائريّة، فالوقائع التاريخيّة ماثِلة اليوم أمام الجميع. وهي مُعلَنة وصريحة وتتحمّل مسؤوليّتها حكومةُ الجمهوريّة الفرنسيّة الرّابعة ذات السلطات الاستثنائيّة. إِنَّ الجانبَ الاستعراضيّ العامّ والتفاخريّ الذي قام به الجنرال أوساريس عبر كِتابه الذي دوَّن فيه جرائم الحرب، يفرض على الدولة الفرنسيّة واجبَ الاعتذار التاريخي. أمّا صمْت السلطات العليا في الدولة وعدم الاعتذار، فيعنيان القبول بالديالكتيك الإجرامي الذي يضطّلع بمسؤوليّته المُنظِّم السابق لحمْلةِ الإرهاب والقتل فِي الجزائر الجنرال أوساريس وسواه من العسكريّين. فالمسألة لم تَعُدْ قضيّة مؤّرخين، كما زعم رئيس الحكومة السابق ليونيل جوسبان، فقد قامَ هؤلاء المؤرّخون أمثال "بيار فيدال ناكيت" و"بنجامين ستورا" بأعمالهم منذ وقت طويل، وذلك حين فضحوا مُمارسات الجيش الفرنسي أثناء حرب الجزائر. المسألة إذاً سياسيّة بامتياز. وهي من دون شكّ قضائيّة أيضاً. مستقبل العلاقات الفرنسيّة - الجزائريّة ما بعد الجماجم يرى المُتابعون لملفّ العلاقات الفرنسيّة - الجزائريّة المتعلّق بالذاكرة التاريخيّة، أنّ صعود حُكّامٍ جُدد في باريس مَكَّنَ من تغيير دَفَّةِ الْعَلَاَّقَاتِ مَعَ الجزائر، ولاسيّما في العلاقة بملفّ الاستعمار. فقد شهدت العلاقات الفرنسيّة - الجزائريّة توتّراتٍ حقيقيّة بعد اندلاع الحراك الشعبي الجزائري في شباط (فبراير) 2019، بسبب الحملات الفرنسيّة غير الرسميّة في الإعلام، والرسميّة أحياناً، وتطوّرات الملفّ اللّيبي، واختلاف وجهات النظر في شأنه، فضلاً عن العامل التركي.. بحيث أدّى ذلك كلّه إلى خَشْيّة فرنسا من فقدان التوازن فِي طَيِّ مَلَفِّ الذَّاكِرَةِ.
وفي ضوء أزمة جائحة كورونا، وتفاقُم الأزمة اللّيبيّة في المتوسّط، ودخول مُنافِسين كِبار إلى السوق الجزائريّة، ترغب القيادةُ الفرنسيّة في عدم خسارة مصالحها في الجزائر، حيث تُواجِه مُنافَسةً من شركاء اقتصاديّين، كألمانيا والصين التي أصبحت الشريك الاقتصادي الأوّل للجزائر بدلاً من فرنسا، وتركيا التي أزاحت فرنسا وباتت المُستثمِر الأوّل في الجزائر. لعلّ طَيَّ صَفْحَة الماضي الكولونيالي تحتاج إلى شجاعة سياسيّة وأدبيّة وأخلاقيّة عالية، من الجانبَين الفرنسي والجزائري. فالتاريخ لا يَطْوِي صفحاته من تلقاء نفسه. كما أنّه من الصعب جدّاً تجاوُز تاريخ الذاكرة لشعبٍ بأكمله، حتّى وإن أسهم المؤرّخون في ردْم الهوّة المحفورة بين فرنساوالجزائر. من هنا، فإنّ مَواقِفَ الرئيس ماكرون في نقْد الماضي الكولونيالي، والتي لاقت ترحيباً كبيراً في الجزائر، تَقْتَضِي أَنْ تُقدِّم فرنسا اعتذاراً واضحاً للشعب الجزائريّ، وذلك حَتَّى يَسْتَطِيعَ تَجَاوُزَ تَارِيخِ الْألَمِ. ونَسْتَطِيعُ حِينَهَا أَنْ نَقُول إِنَّ هُناك تَحَوُّلاً قد حدثَ في المَوقف الرسمي الفرنسي، بما يجعل علاقات فرنساوالجزائر تنتقل من عقدة الهَيْمَنة إلى مجال الشريك الفاعِل في منظور العلاقات الإقليميّة والدوليّة لِما بعد الحراك الشعبيّ. مرسلة من مؤسسة الفكر العربي للناشر رئيس التحرير توفيق المديني / كاتِب من تونس