الإسلام لم يعرف الأصولية كمنظومة فكرية عقائدية إلا بعد أكثر من مائتي عام على البعثة المحمدية؛ فقد كان المسلمون يمارسون الحياة فيكافة مجالاتها وحقولها اللغوية والإدارية والسياسية والفكرية والدينية والاجتماعية والثقافية بدون أن تقيدهم أصول مؤطرة ومقيدة. بعد هذه الفترة الطويل بدأت المنظومة الفكرية العقائدية تتشكل بهدف الإجابة على الأسئلة الفيزيقية والميتافيزيقية التي طُرحت في كافةمناحي حياة المسلم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والسياسية وغير ذلك. ولقد نشأت حاجة ضرورية لهذا التأصيل والتأطير لأنالدولة في تلك الفترة كانت أعظم إمبراطورية في العالم وكانت تحتاج لمثل تلك المنظومة الأصولية كأطار مرجعي، لتحكم وتقود العالم،ولتُرسي قواعدها الخاصة التي تتماشى مع روح العصر وآلياته ومعرفياته، ولتحقق مصالح الدولة العليا واستمرارها و إزدهارها. الأصولية ليست مقصورة على دين أو مذهب ولا على أمة دون سواها، وتاريخياً كانت الأصولية حركات إصلاح وتجديد؛ وبالتالي فهيليست حكراً على من يُسمون أنفسهم "الصحوة" التي اختطفت هذه المفردة اللغُوية، وعملت على تجريدها من مضامينها، وقوانينها، وشروطنموها وتطورها أو تراجعها وانحطاطها. يقول الفيلسوف المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر ): "إن النائم الذيينام ليلة ليصحو في الغد، يستطيع أن يُتابع مسيرة حياته كالمعتاد ... أما أهل الكهف أو من هم في معناهم فلا تكفيهم (الصحوة) لمتابعة سيرالحياة، بل يحتاجون لتجديد عقولهم أولاً حتى يستطيعوا أن يروا الحياة الجديدة على حقيقتها". ولقد صدق الدكتور عابد الجابري فيما ذهب إليه من ضرورة تحقيق القطيعة مع طريقة التفكير القديمة التي يعتمدها العقل العربي في بناءخطابه. وقد نادى بذلك أيضاً كثير من المفكرين والفلاسفة المعاصرين العرب. وفي هذا المعنى يقول الدكتور عابد الجابري أيضاً: "إن استلهام نموذج السلف الصالح وحده، لا يُفيد؛ فهذا النموذج إنما كان نموذجاً كافياً لنايوم كان التاريخ هو التاريخ، يوم كان العالم يقع في عقر دارنا ... والنموذج الذي يجب استلهامه من أجل بناء الذات وتحصينها ضد الذوبانوالإندثار والاستلاب ... يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجلالوجود والحفاظ على الوجود". ولهذا، فنحن في حاجة ماسة إلى إعادة صياغة أصولية معاصرة منفصلة عن الأصولية التراثية التي قامت في العصر العباسي الأول. نحتاجأن نبني بناءً شاملاً للثقافة العربية والفكر العربي، ولن نستطيع القيام بذلك عن طريق المجانسة أو التوفيق بين التراث وبين الواقع، بل يجبالخروج من تلك الثنائية التي نعيشها ثنائية المعاصرة والتقليد؛ لأن التخطيط للمستقبل لا يكون حسب ما كان، بل حسب ما هو كائن، وحسبما سوف يكون ونصير إليه. المستشار : أسامة يماني [email protected]