سبق أن قلتها، وأقولها الآن: هي أخطر من الإرهاب والإرهابيين بأضعاف المرات، وهي طامة مازالت في طور التشكل والتطور، إذا لم تعالج وتواجه بحزم ودون مجاملة لأحد فإنها قد تنسف وجود هذا الوطن، وبقاء الإنسان فيه، إنها طامة (النقص الحاد في المياه الجوفية)، في بلد بلا أنهار، ولا أمطار موسمية، يتباشر أهلها إذا لاحت في سمائهم سحابة عسى ولعل أن تروي عطشهم، وتُطفئ ظمأ أرضهم، وتكف عنهم (غبارها).. تلك الطامة لم نُعرها ما تستحق من مواجهة واهتمام. نعم الإرهاب خطر، لكنه خطر آني، ولا بد أن ينتهي طال الزمان أو قصر، أما نقص المياه فقنبلة (إرهابية) مستقبلية مُرعبة، إذا ما انفجرت فقل على البلد السلام؛ لذلك فإن القول بأن قضية نقص المياه المتفاقم في بلادنا هي (قضية أمنية) أخطر من الإرهاب، هو قولٌ دقيق وصحيح تماماً. ويجب أن نعترف ونواجه المشكلة مباشرة ودون مواربة أو مجاملة لأحد.. بلادنا - يا سادة يا كرام - لا يمكن أن تكون دولة مُنتجة زراعياً، ومن قال غير ذلك إما أنه جاهل بالطامة التي تنتظر بلادنا، ونتجت عن سياساتنا الزراعية غير الموفقة، واستهلاكاتنا المتهورة للمياه الجوفية، أو أنه يستثمر فيها زراعياً، ويستهلك مياهها، وهو يعرف يقيناً أنه سيهاجر ويعيش هو أو أبناؤه وأحفاده يوماً ما خارجها؛ فالمياه الجوفية التي نُلبي بها زراعتنا (المفبركة) على مختلف أنواعها، تكوّنت منذ آلاف السنين، ونحن الآن، وخلال قرابة الأربعة عقود، استهلكنا كماً كبيراً من هذا المخزون الطبيعي، وفي الطريق لنفرط بالبقية الباقية منه، وفي المحصلة ستصبح الحياة نتيجة لهذا الهدر في بلادنا مُتعذرة. والسؤال الذي يطرحه كثيرون: لماذا الإصرار (بالقوة) على أننا دولة زراعية، ونحن نفتقر لأهم عوامل الزراعة وهو الماء؟.. أريد من أحد أساطين وزارة الزراعة أن يجيب العبد الفقير إلى الله على سؤالي البسيط هذا؟ دعوني أضع أمامكم الأرقام المخيفة والمرعبة التي تحدث عنها وزير المياه والكهرباء في لقائه الأخير مع داوود الشريان في برنامجه الشهير على قناة الإم بي سي. نستهلك من المياه ما يعادل من حيث الكمية ما نسبته 38% من كميات المياه التي تجري في نهر النيل. استهلاك الفرد في المملكة أكثر من (ضعف) استهلاك الفرد في أوربا حيث الأمطار الموسمية والأنهار المتدفقة. كل لتر من الحليب تجود به علينا أبقارنا (المباركة) يعني أننا استهلكنا في المقابل 500 لتر من المياه الجوفية. كل كيلو لحم ننتجه في المملكة يعني أننا استهلكنا في المقابل 2500 متر مكعب من المياه خلال 6 أشهر. كل تمرة واحدة تكلفنا لننتجها ما يعادل (خمس) كراتين ماء صحة. وكل (جحة) أو بطيخة واحدة ننتجها يعني أنها كلفتنا حمولة (وايت) من المياه، وعليك تصور الهدر المائي لإنتاج فاكهة بلا قيمة. وطبعاً يأتي على رأس المشكلة زراعة الأعلاف، فهي التي تمتص القدر الأكبر من المياه الجوفية. ولمواجهة هذا الخطر القادم هناك الكثير من الإجراءات المطلوب اتخاذها بشكل عاجل وملح وحازم، أهمها على الإطلاق أن نعترف أننا دولة غير زراعية، ولا يمكن أن نكون زراعية إلا إذا تغيرت أحوال مناخنا تغيراً جذرياً، وأصبحت وديانُنا الجافة أنهاراً جارية لا تتوقف. وثانيها أن نُصحح سياساتنا الزراعية الخاطئة بإيقاف زراعة الأعلاف إيقافاً تاماً، واستيراد أعلاف المواشي التي تورطنا في مشاريعها من الخارج، واعتبار أن من يزرع أعلافاً مهما قلت الكمية مخالفاً للقانون، يجب أن يُعاقب كائناً من كان. كذلك لا بد من زيادة تعرفة قيمة الماء المستهلكة مدنياً، بحيث يضطر المواطنون إلى التحكم في استهلاكهم للماء. وسياسة زيادة التعرفة آتت أكلها في الغرب، ونتج عنها انخفاض استهلاكاتهم المدنية من المياه بشكل ملحوظ، فلماذا لا نقتفي أثرهم؟ وفي الختام أقولها بصراحة: مشكلتنا العويصة أننا نتعامل مع قضايانا الملحة، بل ومعضلاتنا، مثلما كان يتعامل ذاك الشاعر الذي كان يقول: ما مضى فات، والمؤملُ غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها فنحن - للأسف - لا يتجاوز تفكيرنا في قضايانا الساعة التي نحن فيها نقلا عن الجزيرة