بدأت تتصاعد تساؤلات كثيرة في بعض بلاد ما كان يقال له الربيع العربي تقول: هل حقا نحن الآن أفضل مما كنا عليه أم أن أمور الحياة قد ساءت وازدادت تعقدا على الرغم من بعض المظاهر التي تبدو أنها أفضل مما كان. وتقديري أن هذه التساؤلات مشروعة في جانب كثير منها ولكنني منذ بداية المقال أوضّح موقفي فأنا تقديري أنه على الرغم من كل المظاهر السيئة فإننا - في الكثرة من بلاد الربيع العربي وبالذات في تونس ومصر - قد بدأنا خطوات حقيقية إلى الأمام وإن كان الطريق ما زال طويلا وعسيرا وصعبا. نعود إلى تساؤلات الناس ونحاول أن نستكنه أسبابها. لا شك أن الذي يتابع حالة الأمن في الشارع سواء في تونس أو في مصر - خاصة في مصر - يدرك أن شعور الناس بالأمن – الذي هو أساس وجود الدولة - قد تراجع كثيرا. من الذي كان يسمع أن مسلحين يهاجمون بعض مديريات الأمن أو أقسام الشرطة أو بعض المحاكم؟ من كان يسمع عن حوادث قطع الطرق العامة بين كبريات المدن. من كان يسمع عن حوادث تعطيل القطارات. من كان يسمع عن سرقة السيارات على هذا النحو المتكرر غير المسبوق. ومن كان يسمع أن مقر حزب النهضة، الذي قاد حركة الربيع العربي في تونس والذي يشارك في الحكم بأغلبية كبيرة، تحيط به قوات كثيفة من رجال الأمن، لتحميه من هجوم متوقع من تيارات إسلامية سلفية. ألا يدل هذا كله على نوع من التخلف العقلي. أنا أعلم أن رجال الأمن - في مصر وفي تونس - بذلوا في الفترة الأخيرة جهودا مشكورة يكفي دليلا عليها صورة ميدان التحرير الآن. لقد أصبح الميدان بعد الثورة بأيام أو بشهور قليلة مباءة يتقزز من يمر بها من قذارتها وسوء منظرها وحالة الموجودين فيها من شواذ الآفاق. ولما أراد الأمن ووجدت الإرادة السياسية الصادقة إذ بالميدان يعود إلى بهائه ورونقه ويعود ليستحق اسم ثورة الخامس والعشرين من يناير وأتصور وأرجو أن يعود مزارا سياحيا في القريب. عندما تستقر الأحوال وتعود السياحة إلى سابق عهدها. من كان يسمع قبل الربيع العربي أحدا يتهم بعض أبناء الوطن من غير دينه بأنهم لا يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة أو بأن الأبواب مفتوحة أمامهم لكي يغادروا البلاد إذا كان لا يعجبهم ما يقوله هؤلاء المتنطعون. من أعطى هؤلاء الحق في أن يتكلموا باسم بلد عمره من عمر التاريخ ومكوناته النفسية وهويته الأصلية معجونة بكثير من الحضارات الإنسانية المتتابعة وأن هذا التتابع والتنوع هو مصدر غنى وثراء وليس مصدر فرقة وتشرذم. أعتقد أن كثيرين غيري يلاحظون أن أوضاعا كثيرة قد تردّت عن ذي قبل وأن التردّي والاستبداد السابق كان يصاحبهما - على الأقل - إحساس الناس بالأمن في الشارع، الأمر الذي أصبحوا يفتقدونه الآن في كثير من الأحيان. ويذهب البعض في تعليل ذلك كله إلى أن صعود تيارات الإسلام السياسي هو السبب في هذا الذي حدث. ولست من هذا الرأي؛ فإن تيارات الإسلام السياسي صعدت لأنها عرفت كيف تتواصل مع الجماهير وكيف تقدم لها ما تريد من خدمات واحتياجات واستطاعت أيضا أن تخاطب وترا حساسا لديهم هو المشاعر الدينية. هذا كله صحيح. ومع ذلك فأنا بوضوح وبكل صراحة ضد خلط الدين بالسياسة، ذلك لأن الدين مطلق والسياسة نسبية وخلط المطلق بالنسبي يضر بكليهما ولا يصلح للمجتمعات الإنسانية. العقيدة الدينية تقوم على الإيمان والتسليم. هكذا في كل الأديان ومن ثم فإن صاحب العقيدة الدينية الذي يؤمن بها إيمانا عميقا لا يقبل المجادلة حولها ولا التشكيك فيها، ذلك في حين أن المعتقدات السياسية والنظم السياسية تطورت وتغيّرت على مدى التاريخ الإنساني تطورات عميقة وجذرية. والذي ينظر إلى القارة الأوروبية وحدها يرى أن أوروبا العصور الوسطى غير أوروبا التي هبت عليها أنوار الأندلس ومدرسة ابن رشد العقلانية ثم قامت الثورة الفرنسية الكبرى في أواخر القرن الثامن عشر لتقلب وجه الحياة السياسية في فرنسا ثم في أوروبا كلها بعد ذلك. اهتزت العروش الأوروبية واهتز الاستبداد وبدأ الحديث عن سيادة الشعوب وعن الديمقراطية وعن سيادة القانون. ودخلت الإنسانية في طور جديد من الرشد واستقل الدين بمنطقته الأساسية والعميقة في النفس الإنسانية وخضع الناس في تنظيم السلطات إلى النظم السياسية والدستورية المختلفة والمتعاقبة. وتقديري أن النظام الديمقراطي الذي يقوم على حق الأغلبية في أن تحكم وحق الأقلية في أن تعارض لتصبح أغلبية بعد ذلك ثم تتولى السلطة وعدم وضع العوائق أمامها مع تأكيد سيادة القانون واستقلال القضاء.. هذا النظام هو خير ما اهتدت إليه البشرية - حتى الآن - من أنظمة الحكم. وفي هذا النظام الذي يقوم على الحرية وعلى حقوق الإنسان يتأكد معنى الاستنارة والتنوير. ويتأكد معنى القبول بالآخر وتسود ثقافة الحوار البناء الذي يسمع فيه كل طرف للآخر ويستوعب ما يقول ثم يرد عليه شارحا رأيه. هذا هو النظام الذي نرجوه لبلاد الربيع العربي حتى يتحقق معنى الربيع قولا وفعلا وحتى نخرج من دائرة التخلف الذي يكبّل العقول ويثبط الهمم. نقلا عن الشرق الاوسط