ثورة تونس ومصر في تقديري ما كانتا لتحدثا لولا تراخي صاحبيْ القرار عن اتخاذ قرارات مهمة في لحظة مصيرية ومفصلية لمعالجة الوضع قبل أن تصل الأمور إلى مرحلة اللاعودة، لأنه ببساطة كان بالإمكان أفضل مما كان . فبعد تأمل عميق لما جرى ، ومحاولة استيعاب الفعل ، وقراءة ردود الفعل، فان تلك الأحداث جاءت لتُلغي تلك المقولة التي ترى أن الشعوب العربية باتت من الضعف والوهن ما جعلها تنزع إلى العزلة والصمت والموت البطيء. ولعل المثير حقيقة في أن التحركات الشعبية في تونس ومصر كان خلفها شباب بدون مرجعية حزبية أو سياسية. شباب يرغب في التغيير ويصنع التاريخ ويحلم بغد جديد. ومع أن بعض الأنظمة العربية الحاكمة، نجحت في تعطيل عقل الإنسان العربي فأعاقت تنويره وجمدت تطويره لسنين طويلة ، إلا أن ما حدث كان اقرب إلى الحلم. كانت هتافات الجماهير الغاضبة تصرخ "لا للقمع ..لا للاستبداد ". ورغم مظاهر النهب والسلب والانفلات الأمني وهروب السجناء الذي عم المشهد لاسيما في القاهرة والإسكندرية والسويس ، إلا أنها أمور متوقعة ومتصورة في حالة الثورات والهيجان الشعبي. كانت لحظة تاريخية أبت إلا أن تعلن عن نفسها وتسقطه على الواقع الراهن بتراكماته، لتقودنا إلى الاعتراف بأن تلك التساؤلات تحمل الكثير من الصحة وإن كانت مؤلمة، لكنها تبقى كائنة وماثلة شئنا أم أبينا!. المراقب لما يجري، والمتابع لكيفية تعامل تلك الحكومات مع المطالب الراهنة، وفي خضم هذه التحديات يلحظ انه لم تكن ثمة رغبة جادة في العلاج أو الشروع في مشوار الإصلاح، وكان هناك حالة من التجاهل والاستسهال بخطورة الوضع وتسارع وتيرته المذهلة ولعل من قرأ «طبائع الاستبداد»، لعبدالرحمن الكواكبي، يلمح أن ثمة صورة تتكرر مشاهدها اليوم في عالمنا العربي شبيهة بتلك التي عاناها الكواكبي من عسف واضطهاد من قبل السلطة التركية الحاكمة قبل أن يهاجر إلى مصر عام 1899، وكان محقاً في قوله إن «الاستبداد مفسدة للأخلاق، ويسوق إلى الحقد، ويضعف حب الوطن وتمرض به العقول، ويختل الشعور، وتتأثر الأجسام وتصيبها الأسقام، فالاستبداد يهدم ما تبنيه التربية، ويُلجئ النفوس إلى الرياء والكذب والنفاق فتروج في ظله، والاستبداد لذلك عدو الترقي، ويسير بالشعوب إلى الانحطاط، والتأخر». على أن الثقافة المجتمعية وإفرازاتها التراكمية تبدو الأرضية التي تنطلق منها تلك الملامح الاستبدادية وهي التي أسست للنظام المهيمن في عالمنا العربي الذي خلق بدوره مجتمعاً اتكالياً عصبوياً غارقاً في الأنانية والتسلط ، وهذه حالة نتيجة طبيعية لحالة مجتمعية اعتادت على التلقين والإذعان والجاهزية والسلبية، مجتمعاً يعاني من الفقر والجوع والكبت السياسي وغياب المشروع التنموي ولا يعرف سبيلاً إلى مصطلحات ومفاهيم كالتعددية والحوار، والمشاركة السياسية وحماية حقوق الإنسان. ولم يعد سراً أن تلك الدول وغيرها كانت ولا زالت تتعرض لضغوط خارجية وإلى مطالب شعبية تنادي بالإصلاح ومحاربة الفساد وحرية التعبير وأنه لا مستقبل ولا استقرار ولا أمن بدون تلك الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يقول سعد الدين إبراهيم (الناشط المصري) «تعالى خطران داهمان من الخارج: إسرائيل والهيمنة الأجنبية، وظهرت في العالم العربي اليوم ثلاثة تيارات: تيار استبداد الحكام بالسلطة والثورة، واستبداد الغضب والتطرف بضحايا الاستبداد، وأمام هذين التيارين ظهر التيار الثالث الذي يتمثل في صيحات العقلاء ضد الخطرين الداهمين من الداخل، كما تعالت ضد الخطرين الداهمين من الخارج، وتتلاقى هذه الصيحات الآن عند مطلب الديمقراطية». غير أن المراقب لما يجري، والمتابع لكيفية تعامل تلك الحكومات مع المطالب الراهنة، وفي خضم هذه التحديات يلحظ انه لم تكن ثمة رغبة جادة في العلاج أو الشروع في مشوار الإصلاح، وكان هناك حالة من التجاهل والاستسهال بخطورة الوضع وتسارع وتيرته المذهلة. على أنه ما بعد الأحداث المريعة الأخيرة، نجد أن الحاجة باتت ملحة للإصلاح والعلاج، فالخلل بيّن ولا يحتاج سوى قرارات قاطعة (سياسية بطبيعة الحال)، ولكن متى تتخذ القرار؟!هذا هو السؤال الحارق. أليس من الطبيعي إصلاح وحل مشكلات الداخل قبل الانتقال إلى قضايا الخارج ؟! أسئلة تكاد تكون مفحمة لمن يمعن في تداعياتها، ولكن العقل وعبر التاريخ والتجربة، لا يلبث أن يقول إن المكابرة وقت الازمات قد تقود إلى كارثة ، وان القراءة الخاطئة للأحداث قد تؤدي إلى ذات النتيجة . وإن أردنا المضي نحو المزيد من المكاشفة، فإن ثمة تحدّيا رهيبا واجهته تلك الحكومات، وحالة من الترقب عاشتها شعوبها تتمثل في انتظار الخروج من هذا النفق المظلم، حيث المطالب تدور حول ضرورة الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية على قاعدة المواطنة والمساواة والعدالة والحرية ، فالغاية هي الاستقرار والتنمية. ولذا فالحكومة الراشدة (البراجماتية)، هي التي تتكيف مع المتغير، فتكون متفاعلة دون تماهٍ أو تقوقع، فلا تلبث ان تكون مرتهنة الى العقلانية والتوافقية حتى يمكن لها الخروج من هذا المأزق، وإلا أصبحت كائناً جامداً غارقاً في الضياع. لذا فإن الإفرازات اللاحقة لن تجد بُداً من تكريس مفاهيم التعددية والتعايش والمشاركة الشعبية وحماية حقوق الإنسان. أن الإصلاح كعلاج للوضع الذي نعيشه لا يمكن له النجاح، طالما لم نبدأ بتحرير الإنسان العربي من كل القيود التي تكبله، وعندما يشعر هذا المواطن العربي بالواجب أو الإرادة الصالحة، كما سماها كانط، فإنه سيكون أول المدافعين عن وطنه وحكومته وشعبه طالما أنه توفر له المناخ الصحي والطبيعي لتحقيق طموحاته وطموحات أبنائه وأحفاده، كونه يؤمن باستقرار وبناء بلده ، ومتى ما كانت اللحمة الداخلية صلبة ومتفاهمة ضمن نسيج مرن وشفاف، فإنه من الصعوبة بمكان اختراق هذه الجبهة أو غيرها، طالما أنها لا تعاني من ظلم اجتماعي أو كبت سياسي يلوث مناخها، أو خنوع يضعف حضورها ويهمش قيمتها، فإصلاح الداخل هو الخطوة الأولى للعلاج الناجع، وهو الخطوة الفاعلة لقفل الباب أمام من يعشق دق الأسافين أو الاصطياد في المياه العكرة. صفوة القول، إن المشهد الذي تجسد في تونس ومصر، كان بسبب التأخر في الإصلاح الدستوري والسياسي والاجتماعي، فكانت النتيجة انفجار الموقف وإن كان هناك من يرى إمكانية حدوث ذات السيناريو في بعض الدول . إلا أننا نأمل في أن يبادر النظام العربي بأخذ العبرة مما حدث .