لست بحاجة هنا إلى بيان أهمية وشرف شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فذلك ما لا يخفى على مُسلم . إلا أنه مما أصبح ظاهرة تُنذر بالشر وتدعو إلى القلق ، تنامي كثير من التصرفات والسلوكيات القبيحة ، والأفعال والأقوال المُنكرة المحرمة ، لما فيها من ظُلم وعدوان وإفساد ، وانتهاك لحقوق وأعراض المسلمين بل وغير المسلمين ممن أوجبت لهم الشريعة حقوقاً وقررتها لهم . كل ذلك يصدر عن أناس يزعمون أنهم يريدون الإصلاح، ويهدفون إلى إنكار المنكر . بينما هم واقعون في منكرات أعظم وأخطر مما أرادوا إنكاره . إنه حين يكون مُنطلق الشخص في إنكار المنكر مجرد الغيرة والحماس الخالي من العلم الشرعي والفقه ، فإنه بذلك يُفسد أكثر مما يُصلح ، وقد يوبق نفسه ويوردها موارد الهلاك بجهله وغيرته غير المنضبطة بضوابط الشرع . تأملت طويلاً ومنذ زمن بعيد في كثير من صور السوء والفحشاء ، والظلم والبغي ، التي يفعلها كثير من العوام أو حتى المتعالمين ، ما حملهم عليها إلا إرادة إنكار المنكر ، وزعمهم الغضب لمحارم الله عز وجل ، دون أن يفطنوا أنهم انتهكوا من محارمه سبحانه أعظم مما أرادوا إنكاره . فالله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وهذه هي قاعدة الشريعة وأساس الدين ، كما أنه لا يخفى على جاهل فضلاً عن عالم ، أن الله عز وجل حين أرسل نبيه موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى شر خلق الله فرعون الذي ادعى الربوبية ، قال الله سبحانه لهما (فقولا له قولاً لينا) كما أنه سبحانه أمرنا بالعدل في القول حتى مع أعداء ديننا الذين هم أعداء الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . إن حماسة َ عمر الفاروق رضي الله عنه حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعاتب حاطب بن أبي بلتعة على إفشاء سرّه عليه الصلاة والسلام لقريش ، بأن قال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق . إن هذه الحماسة لم تلق موافقةً وتأييداً منه عليه الصلاة والسلام ، بل ردّ على عمر برد لم يكن يتوقعه فقال : (وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم). لذا فإن ما نشهده اليوم في مجتمعاتنا من ضلال أقوام يزعمون أنهم أهل الله وخاصته ، ويدّعون أنهم قوامون بالقسط ، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر ، ويحسبون أنهم من أهل الغيرة على محارم الله ، بينما هم تحت هذه المظلة ، وبحجة هذه الفضيلة ، يرتكبون من الموبقات والفساد في الأرض ما يندى له الجبين ، وما تأباه الشريعةُ وترّده على صاحبه . وإن أكثر ما يُحزنني في هذا الأمر ليس ضلال أمثال هؤلاء العوام والجهال ، ولكن في سكوت العلماء عن هذا الضلال ، وعدم إنكاره بما يستحقه من إنكار ، وإعلان البراءة منه ، حتى لكأنه بات يُعجب بعضهم ، وقد يكونون يرون في هؤلاء الغوغاء الفاحشين البذيئين ، جنوداً للحق وأنصاراً للدين . ألا بئس الجنود والأنصار . وما أشبه هؤلاء بقول الرجل الضال الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حدث أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطت عملك» . وصور الاحتساب المُحرّم البغيض النتن كثيرةٌ لا يتسع المقام لحصرها هنا ، لكن سأشير إلى بعضها على سبيل المثال فقط فمن ذلك : أولاً : تحت مظلة الجهاد وإقامة الشريعة أريقت دماء معصومة ، وأزهقت أنفس زكية ، وأُهلك الحرث والنسل ، وانتشر الفساد في الأرض ، ومع أنه لا يجادل مسلم أن ذلك من أعظم البغي والفساد الذي تترفع عنه شريعة الإسلام ، إلا أنه هالني كثيراً نسبة المسلمين الذين يتعاطفون مع أهل هذه الأفعال ويظنون بهم خيراً ، بل ويطلقون عليهم صفات المجاهدين . سواء في التعاطف مع تنظيم القاعدة وقادته من أهل الضلال ، أو من سلك مثل سبيلهم من المفسدين . ثانياً : ما رأيتُه من تساهل بعض القضاة في إعمال القواعد الشرعية للإثبات والحكم ِ على المتهم لأدنى شبهة ، وإباحة عرضه وجسده ، لا لقناعتهم بأنه فعل ما اتُهم به ، بل لأمور أخرى لا علاقة لها بالدعوى كأن يكون المتهم من طائفة يعتقد القاضي أنها ضالة ، أو أن يكون القاضي ينظر لهذا المتهم بأنه فاسق أو عاص في أمور أخرى . ومن ذلك أنه مر ّ بي قضية ٌ اتُهم فيها رجل بالتزوير ، بينما ما فعله لا يصدق عليه الوصف النظامي للتزوير ، وكان حكم البراءة في غاية الوضوح ، إلا أن القاضي حكم بإدانته لأنه قُبض عليه ومعه مسكرات، وكان متجهاً لإحياء حفلة محرمة !! وكان القاضي يظن بذلك أنه مأجور ومحتسب !!. ثالثاً : من صوره أيضاً ما تمتلئ به المواقع الإلكترونية من شتائم وقذف وسب وفحش في القول ، وتكفير ولعن ، وتفسيق وتبديع ، وألفاظ يترفع عنها من عنده ذرة خُلق ، تصدر من أناس لا دين ولا خلق لهم ، تعليقاً على آراء وأقوال واجتهادات وأفكار لبعض المسلمين ، قد تكون هذه الآراء والأفكار صحيحةً ، أو خاطئة ، إلا أنها على كلا الاحتمالين لا تُبيح لعنهم، ولا سبهم وشتمهم، ولا تكفيرهم وتفسيقهم ووصفهم بأعظم الأوصاف التي لا يجوز إطلاقها على مسلم . وفي غالب هذه التعليقات والعبارات ، يظهر بجلاءٍ مستوى الجهل والضلال الذي تنطوي عليه عقول هؤلاء ، حتى صاروا يُنكرون الخروج على ما اعتادوا عليه من عادات وكأنها ثوابت من دين الله لا تقبل الاختلاف ولا النقاش . رابعاً : ومن صور الإثم والبغي والعدوان الذي يُمارس باسم الدين والفضيلة ، وهو من أشد المنكرات وأعظم المعاصي ، ما يقوم به بعض أهل الجهل والضلال وسوء الأخلاق ، من تتبع عورات المسلمين ، واستهدافهم في بيوتهم وأحوالهم الخاصة ، وتعمد فضحهم ، وإشاعة ما قد يكونون ارتكبوه من معاص كانوا مستترين بها ، أو تعييرهم بأمور في أنسابهم وأحوالهم ، ويعتقد هذا الفاضح الدنيء الخسيس الطبع ، أنه بذلك يتقرب إلى الله بفضح من يظنه من الفاسقين، بينما هو بذلك اقتحم باباً من أبواب سخط الله وغضبه من حيث لا يشعر . ومن ذلك الاعتداء على خصوصيات المسلمين في الإنترنت واختراق أجهزتهم والاطلاع على ما فيها من خصوصيات وأسرار . خامساً : من أسوأ صور الاحتساب المحرّم أيضاً ما يفعله بعض المندفعين من تجميع الناس وتأليبهم ، والاصطفاف والتجييش ، والسير بهذه الجموع إلى بعض مواقع الجهات الحكومية أو الفعاليات الوطنية ثقافيةً أو غيرها ، في مظاهر توحي بالثورة والفتنة ، وتُقرّب من الفوضى والغوغائية ، بزعم إنكار ما يعتقدونه منكراً، وقد لا يكون كذلك ، أو قد يكون منكراً لكنهم ارتكبوا في إنكاره ما هو أدهى وأنكر ، من التحريض على ولي الأمر ، والافتئات على أهل العلم الذين قال الله عنهم : (وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) . إن الاحتساب شعيرةٌ من شعائر الله عز وجل العظيمة شرعها الله سبحانه لإصلاح دين الخلق ومعاشهم باطناً وظاهراً، بالحفاظ على المنافع وتنميتها، ومحاربة المضار وإخمادها، لا تجريم صاحب المنكر أو فضحه أو التشوف لإيقاع العقوبة عليه . فمتى نرى يوقفة جادة من العلماء في وجه هذا الضلال والظلم والفساد والبغي ، ومتى يُعلنون البراءة منه ومن أهله ، ويُحذّرون من يغترّ به بأنه معرضٌ نفسه لسخط الله ، وأنه يُفسد في الدين والدنيا أكثر مما يريد إصلاحهما ؟ والحمد لله أولاً وآخراً هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.. نقلا عن الرياض