لا أدري لم ترتفع حساسيتنا ونصاب بالتشنج والدهشة عندما يباغتنا طرح فكري عنصري متطرف قادم من جيراننا في العروبة؟ طرح يحاول أن يلغي تجربتنا التاريخية والحضارية المحلية ويسمنا بالبداوة والتخلف؟ فليس بالجديد أن تصلنا طروحات تصف الخليج وسكان الجزيرة العربية عموما بالأعاريب أسرى الجهل والتخلف، فهذا الطرح يغور عميقا في التاريخ منذ زمن الجاحظ عندما ألف كتابه الشهير (البيان والتبيين) للرد على الشعوبية, والذي كانت فيه الشعوبية محتدمة على أشدها, ولاسيما بين العرب والفرس، فالعرب آنذاك كانوا يرون أن الله فضلهم كونهم أصحاب رسالة بعثت للعالمين، بينما الفرس كانوا يرون أن هم أصحاب حضارة عريقة ترجع لفجر التاريخ. هذا النوع من التجاذب والصراع بقي عبر مراحل متصلة وطويلة للتاريخ الإسلامي, ولاسيما في الفترات التاريخية المظلمة الخالية من الفعل الحضاري, وصولا إلى عصرنا الحديث الذي ظهر من خلال بعض الكتابات والطروحات الفكرية والأدبية التي تنطلق من التفوق القومي كطروحات طه حسين ومحاولة ربط مصر بدول الأبيض المتوسط أو لويس عوض وسيد القمني عندما يربطها بفروعونيتها. إذا تلك التهمة التي لم تنفك تطارد الخليج وسكان الجزيرة العربية إلى الآن, لذا عندما تدفع لنا بوابة الإنترنت بعض الطروحات العنصرية العنيفة أستغرب كيف نقابلها بالغضب والتشنج, كمثل مقالة كتبتها كاتبة تونسية ضمنتها طرحا عنصريا فوقيا مليئا بالكراهية والعنف، وصمت فيه المنطقة وسكانها بالتخلف والجهل المطبق إلى الدرجة التي تلغي عنهم التمدن البشري. فهذا النوع من الطرح لا أعتقد أنه جديد أو طارئ ويتطلب مستوى عاليا من الانفعال ضده. ففي البداية قد يحرض هذا النوع من الطرح ويستجلبه للواجهة عدة عوامل قد يكون منها: - ارتفاع سقف الحريات في التعبير بعد الربيع العربي إلى درجة اختلطت بها الأوراق وبات الشتم واللغو والشعار التحريضي المتطرف يدخل ضمن حرية الرأي, كما شاهدنا في مصر عندما نعت نائب برلماني القائد العسكري بالحمار! لذا وجدها البعض من أصحاب الميول المتطرفة فرصة سانحة للتعبير عن طروحاتهم, كالكاتبة المذكورة التي وصمت سكان الجزيرة العربية بالأعاريب الجهلة ووصفت شيوخ دينهم بأسرى الغرائز, متناسية أن من يستهدف الآخرين بالشتائم والتجريح أو الترويج للفكر العنصري ليس فقط ينحدر إلى مستوى الغوغاء والعامة، بل يدان قانونيا في الدول المتحضرة التي تدعي الانتماء إليها. - أيضا وصول حزب إسلامي إلى الحكم في تونس خلق نوعا من الإحباط لدى التيارات المخالفة, ولاسيما أن الإسلاميين قد قطفوا ثمار الربيع بسهولة (لم يقطفوه حتى، بل وقع بين أيديهم )، لذا فالتيارات الأخرى المناوئة, لابد أن تشن حملة شعواء ضد هذه التيارات ورموزها ومصادرها وخلفيتها التاريخية, التي تمثل الجزيرة العربية جزء كبير منها. - أخيراً قضيتنا القديمة الجديدة التي رافقت الطفرة الاقتصادية للمنطقة, وجعلت منا محدثي نعمة مؤطرين داخل برميل البترودولار متعجرفين على محيطنا، بينما محيطنا يقابل هذا الزهو بالنيل من مواقعنا وتاريخنا بين حضارات الشعوب, فبالتالي عندما وصف نزار قباني أحد سكان المكان في قصيدته الشهيرة قائلا: ( يا جملا من الصحراء لم يلجم ) . هذه الجملة تعكس جزءا من واقع الصورة الذهنية عنا داخل رؤوسهم حتى ولو أصررنا على تجاهلها أو عدم وجودها بسبب الابتسامات الدافئة والكلمات المنمقة والجمل التشجيعية في المحافل والمهرجانات, فلا يدعنا هذا نتصور أن العالم العربي من حولنا قد أصبح خاليا من الطرح العنصري أو الشوفينية الإقليمية التي تختفي خلف الواجهة على شكل طبقات تاريخية سميكة متراكمة, وهو طرح لابد أن نعترف ونقر بوجوده، فلا يصيبنا بالدهشة أو محاولة توظيف ماهو ظلامي وعنصري في الثقافة للرد عليه. فما من سبيل لمواجهة هذا الحاجز السميك واختراقه سوى المزيد من الفعل الحضاري المبدع الخلاق المتحدي لظرف الزمان والمكان فهو سبيلنا الوحيد لمواجهة أساطير الصورة الذهنية. نقلا عن الرياض