لم يتصور أحد منذ عام مضى أن يحمل عام 2011 ميلادية معه كل هذه الأحداث التي جرت والتطورات التي وقعت على نحوٍ يكاد يجعل وجه المنطقة العربية مختلفاً تماماً حتى إن البعض ردد ساخراً أن أية قمة عربية قادمة سوف تكون قمة «تعارف»! نعم لقد شعرنا منذ سنوات أن الأمة العربية تدخل «خريفاً» فيه قدر من الترهل والجمود الذي قد يؤدي إلى شتاءٍ بارد صقيعه لا يحتمل، وكنَّا نكتب كثيراً عن أهمية «الديموقراطية» والمشاركة السياسية وتداول السلطة ودوران النخبة لكن لم يخطر في بالنا أبداً أن تأتي الأحداث بهذه السرعة وعلى هذه الوتيرة، فمصر على سبيل المثال تغيرت 180 درجة وتبدلت «بورصة البشر» فيها فظهرت أسماء وتوارت أخرى وكأننا أمام شعبٍ مختلف أظهر في بداية الثورة أفضل ما فيه ثم أظهر بعد ذلك أسوأ ما فيه، ونحن إذ نرقب من كثب الأوضاع في دول «الربيع العربي» نجد أنها نتيجة طبيعية للغضب الكامن عبر العقود الأخيرة وعمليات السطو على مقدرات الدولة واختلاط السلطة بالثروة وقيادة الأوطان بلا رؤية بل وبلا ضمير، ونحن نتابع الآن مجريات الأمور باهتمام لا يخلو من قلق وبحرصٍ لا يفتقد الوعي، ولنا على الخريف القومي والغضب العربي ملاحظات منهجية نسجلها في ما يلي: أولاً: إن اختلاف النظم العربية وتكريس «القطرية» أدَّى إلى نوع من الاختلاف والتباين في الهوية الوطنية بينها وانعكس في شكل واضح على طبيعة العلاقات الثنائية فتدهورت التجارة البينية ولم يتقدم العمل العربي المشترك بصورة تتجه نحو التكامل أو حتى نحو درجة أدنى من التنسيق الإنمائي ناهيك عن التنسيق السياسي وإمكانية بلوغه مستوى مقبولاً في ظل أوضاع دولية وإقليمية محفوفة بالمخاطر. ثانياً: لعبت المؤثرات الخارجية والتدخلات الأجنبية دوراً واضحاً في الحياة السياسية العربية وتوالت الصدمات على الأمة بدءاً من هزيمة 1948 مروراً بنكسة 1967 وصولاً إلى سياسات «كمب دايفيد» ثم غزو العراق للكويت واللجوء إلى حلول خارجية للخلاص من المأزق الذي وضعت فيه زعامات خرقاء أمتها في العقود الأخيرة حتى أصبح واضحاً أن غياب «الحكم الرشيد» وافتقاد الحكمة في تشكيل الرؤية العربية المشتركة هو المسؤول الأول عما آلت إليه الأوضاع في الوطن العربي. ثالثاً: لقد ظل «الصراع العربي الإسرائيلي» مؤثراً سلبياً على الوضع العربي العام يستهلك الموارد ويبدد الطاقات ويضع الأنظمة في حرج أمام شعوبها، وعلى رغم الانتصار النسبي للعرب في حرب 1973 مع إسرائيل، إلا أنها لم تتمكن من الاندماج الكامل والتعايش المشترك مع جيرانها بسبب سياساتها العدوانية التوسعية ورؤيتها العنصرية لوجودها النشاز في المنطقة وهو ما انعكس بالضرورة على أطراف الصراع الكبير بالشرق الأوسط على امتداد العقود الأخيرة. رابعاً: لقد لعبت الانقلابات العسكرية التي عرفتها المنطقة العربية التي بدأت بسلسلة القفز المتوالي على السلطة في سورية على أيدي أمثال حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي وغيرهم من المغامرين بالحكم والمقامرين على السلطة، ثم جاءت الثورة المصرية عام 1952 لتقلب الموازين في المنطقة ولتضع العرب أمام سيناريو قومي جرى إجهاضه بنكسة 1967، ولا شك في أن دور الجيوش العربية في ما جرى وما يجري هو تأكيد لحالة الجمود الفكري والترهل السياسي التي شكلت «خريف العرب» ومهدت ل»ربيع الغضب». خامساً: إن نهب الثروات القومية وتجريف القدرات الوطنية وطغيان دور الفرد على دور المؤسسة كل ذلك أدَّى إلى المشهد المؤلم الذي عرفته بعض الأقطار العربية ودفع شعوبها للخروج إلى الميادين مطالبين بالتغيير باندفاع كاسح يجر أمامه حكاماً سقطوا ونظماً تهاوت بما يعني أننا كنا محكومين على غير إرادة الشعوب وهو ما كان تمهيداً طبيعياً لذلك التيار الذي اجتاح عدداً من الأقطار العربية عام 2011. سادساً: إن الوطن العربي جزءٌ من العالم الإسلامي كما أن الدين متجذر في أعماق من يدينون به والقراءة التاريخية للعلاقة بين العروبة والإسلام تؤكد أن التداخل بينهما عميق وأن الحضارة العربية الإسلامية هي شراكة بين المسلمين وغير المسلمين من مسيحيين ويهود لذلك كان طبيعياً أن يكون حصاد «الربيع العربي» إسلامياً بالدرجة الأولى حتى لدى الدول التي لم تشهد ثورة شعبية فإن انتخاباتها النيابية قد أفرزت برلماناً تقوده غالبية من عناصر التيار الإسلامي ولعل المملكة المغربية هي نموذج لذلك، فالبيئة العربية تستقبل التيارات الدينية بكثيرٍ من القبول الشعبي على نحوٍ غير مسبوق. سابعاً: إن ضعف التنظيم الدولي العربي المرتبط بجامعة الدول العربية أدَّى إلى تراجع واضح للعمل العربي المشترك ولا بد أن نعترف أن العبء كله في ذلك لا يقع على الجامعة وحدها ولكن دعنا نعترف أن إرادة الشعوب العربية ليست حاسمة في دعم الجامعة وأنا ممن يظنون أنها قد بدأت تدخل مرحلة العد التنازلي في عمرها الافتراضي وأصبحت في حاجة إلى تجديد الفكر والروح والدماء خصوصاً وأن مجلس التعاون الخليجي قد بدأ يمتد على الساحة العربية في شكلٍ أكثر انتظاماً وأشد تأثيراً. ثامناً: إن الذين يتصورون أن الغضب العربي كان مرتبطاً فقط بنظمٍ مرفوضة لا يدركون الواقع الحقيقي، فالشعوب ترفض التخلف الذي تشعر به والفقر الذي تعانيه وطوابير البطالة بين شبابها وتدرك في أعماقها أن إسهامها في حضارة العصر محدود للغاية ويكفي أن نسأل أنفسنا كم عنواناً أنجزت المطابع العربية لكتبٍ جديدة في العام الواحد؟ لندرك أن لدينا أزمة نشر وضعف كلمة ومحنة فكر مع غيابٍ كامل لخطط النهوض بالتعليم وأساليب الرقي بالمجتمع. تاسعاً: إن العرب يدركون أن دوافع الغضب الكامن تأتي من المقارنة بينهم وبين غيرهم بدءاً من تركيا وإيران وصولاً إلى إسرائيل ذاتها وكأنما أصبحت «النهضة» حقاً للغير وحراماً على معظم الشعوب العربية، ولذلك بدأت عملية مراجعة غاضبة لما يجري على ساحة الوطن العربي تطلب الخلاص من التخلف والظلم والفساد. عاشراً: إن جيلاً جديداً بدأ يطل على المشهد العربي حاملاً نتائج التقدم التكنولوجي وعصر ثورة المعلومات، ولعلنا نعترف أن معظم ثورات الميادين الأخيرة في دول «الربيع العربي» اعتمدت على الإمكانات الإلكترونية حتى أسماها البعض بثورة «الفايسبوك» ولا شك في أن هذه النقطة بالذات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم «النهضة» ومدلولها على المستوى العربي كله. هذه ملاحظات للتأمل نريد أن نقول بها إن الوطن العربي يمر بفترة مخاض غير مسبوقة يعيد بها ترتيب أوضاعه لنظمٍ تلملم أوراقها استعداداً للرحيل وأخرى توفق أوضاعها طلباً للبقاء، إن المنظومة العربية التي عرفناها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تتغير الآن لتأخذ سياقاً عصرياً بدأت ملامحه في الظهور تبشيراً بوصول أجيالٍ جديدة إلى كراسي الحكم ومواقع السلطة مدركين أن لكل عصر رموزه ولكل عهدٍ شخوصه. إن هذه القراءة السريعة تؤكد من جديد أن غضب العرب كان مقدمة طبيعية لربيع الثورات التي تحركت بها الشعوب في حشودٍ هائلة تسجل لعام 2011 من الميلاد أنه كان بحق نهاية ل «خريف العرب» وبداية ل «ربيع الغضب» ندعو الله أن لا يكون بعدهما شتاءٌ قارص تزبل فيه الزهور وتنكمش الأفكار ونعود للاستبداد من جديد! * كاتب مصري نقلا عن الحياة اللندينة