وصلت الأوضاع في سوريا وما حولها إلى المرحلة الحاسمة، التي كان النظام، بل وكان الجميع من عرب وإقليميين ودوليين، يحاولون تأجيلها أو الهرب من استحقاقاتها الحاضرة والمؤجلة. ما عاد هناك شيء مؤجل. فالنظام الذي قضى سبعة أشهر وهو يأمل أن يتمكن من إخماد الانتفاضة، دخل الآن، أو أرغمه السوريون الثائرون على الدخول فيما يشبه حرب العصابات؛ تارة مع المنشقين عن الجيش وقوات الأمن، وتارة مع «المسلحين» أو المحتجين الذين لجأوا للسلاح؛ إما ثأرا للمقتولين أو للدفاع عن النفس في وجه عمليات الملاحقة للقتل أو الاعتقال. وقد حصل أمران يوم عيد الأضحى؛ فقد تجنب الرئيس بشار الأسد الصلاة في الجامع الأموي بدمشق، وذهب إلى المسجد الكبير بالرقة لتأدية صلاة العيد، وهو بذلك يريد أن يصور للسوريين أن العشائر السنية بتلك المنطقة على حدود العراق هم من أنصاره. ومن هناك صرح، على لسانه، مفتيه المعروف، حسون، بأن الرئيس لا يريد أن يبقى في السلطة على مدى الحياة، بل إنه، وبعد أن تتم عمليات الإصلاح (!)، سيترك السلطة لممارسة طب العيون الذي تخصص فيه في لندن، قبل أن يموت شقيقه باسل، ويقرر الوالد اعتبار بشار وليا لعهده الميمون! لقد بلغ من ضعف النظام وتخبطه أنه ما استطاع حتى «الاحتيال»، الذي اتهمه به رئيس وزراء قطر. المبادرة العربية لا تتيح فرصة فقط؛ بل تعرض حلا إنقاذيا للنظام والمعارضين في الوقت نفسه. إنها تعطي النظام شرعية، وتطالبه بوقف العنف، ثم الدخول في حوار مع المعارضة من أجل تحول ديمقراطي متوسط المدى، ينجو فيه الجميع. وقد كان بوسع النظام لو كان لا يزال قويا أن يعطي نفسه فرصة بإيقاف العنف أو تخفيفه، لتشتبك المعارضة فيما بينها من حيث التمثيل في الحوار، وهذا فضلا عن التفاوض على مكان الحوار وزمانه. لكنه (وكما سبق القول) كان من الضعف بحيث ما جرؤ على ترك حمص وحماه وشأنهما ليومين أو ثلاثة خلال العيد. وعمد، كما فعل بحماه في مطلع شهر رمضان، إلى ارتكاب المذابح في المدينتين اللتين صارتا أسطورة في الصمود والتصدي، وليس على طريقة أنظمة الممانعة في ذلك، بل على الطريقة التي اجترحتها الثورات العربية خلال شهور عام 2011. بيد أن الإحراج الفظيع الذي وقع فيه النظام، نتيجة خوفه من انفلات الاحتجاج وتعاظمه إذا سحب قوات أمنه من المدن والبلدات، يواجه - وإن ليس بالحجم نفسه - المعارضين. فهناك أطراف لا تزال خارج المجلس الوطني أفرادا أو جهات، بحجة أن المجلس تورط في الدعوة للتدخل الأجنبي. وهذا عذر أقبح من ذنب. فالتدخل الأجنبي المقصود هو حماية المدنيين، وإن كان المعارضون هؤلاء مصرين على إنكار أي تدخل، على الرغم من تواضع المطلب؛ فإن أفضل الوسائل للحيلولة دون ذلك، إنما تكون بالوصول بالمجلس الوطني والمعارضة لأي شيء من داخلهم. إذ لا مصير لهم خارج المجلس الوطني إلا الانكفاء وانعدام التأثير، أو الإيمان بحوارات النظام، التي ما عاد أحد يصدقها حتى أصدقاء النظام الأماجد بلبنان! لكن المجلس الوطني نفسه، ومن خلال بيان رئيسه، وضع نفسه خارج الأحداث أو فوقها، عندما حمل على المبادرة العربية، وما طرح بدائل شاملة، بل دعا العرب والدوليين لحماية المدنيين، وطلب من الجيش السوري الحر التعاون معه. وقد كان بوسعه - بانتظار رفض النظام للمبادرة عمليا - أن يعرض برنامجه لمواضيع الحوار، والخطوط الرئيسية للدستور الجديد الذي يقترحه، بدلا من الاكتفاء بمسألتي حقوق الأقليات، وفصل السلطات! على أن الإحراج الأكبر إنما ينال الأتراك بالذات. فقد رفضوا منذ البداية التسليم بالحل العربي أو الدعوة إليه، وحاولوا التصدي للمشكلة مع النظام مباشرة، وعندما لم ينفع التفاوض مع النظام، تقبلوا اللاجئين، ورضوا باستقبال المعارضة أو السماح لها بإقامة المؤتمرات على أرضهم، وانصرفوا إلى رفض مسالك النظام عَلَنا، والتواصل مع الأميركيين من أجل المخارج. وقد قال الروس والصينيون أخيرا إنهم يريدون من الجامعة العربية التدخل والتوسط، وما قال ذلك الأتراك صراحة. صحيح أنهم تحدثوا إلى العرب فرادى عن الوضع السوري، لكنهم بالتأكيد تشاوروا مع الإيرانيين أكثر. ويكون عليهم الآن أن يحددوا موقفا أو إطارا يرضون العمل معه وفيه لإخراج سوريا جارتهم من المأزق، وليس مع الأميركيين، بل مع العرب الذين لا مدخل طبيعيا إلى سوريا إلا من خلالهم، مهما بلغ طول الحدود بينهم وبين سوريا. وقد كان الأوروبيون جماعيين في الشهور الأولى للأزمة السورية، واتخذوا قرارات بعقوبات جمة ضد النظام. لكنهم، باستثناء فرنسا، سكتوا في الشهرين الأخيرين. ولذا سيكون على فرنسا العمل مع العرب ومع الولاياتالمتحدة إن شاءت الوصول إلى مرحلة التقدير والتدبير. والسلوك الأميركي تجاه الأزمة هو السلوك الأميركي التقليدي، لكنه ما عاد ممكنا الآن. فقد بدأوا مع الأوروبيين في رفع الصوت ضد النظام السوري، وفرض العقوبات عليه لدفعه للحركة باتجاه التغيير، حين كان الأتراك لا يزالون يتفاوضون، وحين كان العرب لا يزالون يلتزمون الصمت المطبق. وكان هذا موقفا متقدما تخللته مشاهد السفير الأميركي في حماه، وتصريحاته الشهيرة.. وإلى حين انسحابه من سوريا. منذ الانسحاب بدأت مرحلة جديدة اتسمت بالتصريحات المضعضعة لوزيرة الخارجية كلينتون، والاجتماع بين أوباما وأردوغان دونما تصريحات علنية، ووصولا إلى تعيين مبعوث لأوباما لشؤون انتقال السلطة في الشرق الأوسط! فهل يشير هذا التعيين إلى مرحلة جديدة في السياسة الأميركية تجاه التغيير العربي، خاصة في سوريا؟! وإذا كان هناك تغيير ففي أي اتجاه؟ ذلك أنه من الواضح أن الأميركيين هم الذين يملكون التأثير التعديلي أو التغييري على الروس والصينيين من خلال مبادلات ومصالح بالمنطقة وخارجها. ولا فائدة من الحديث عن التأخر العربي، وعن طرائق دخول الجامعة على الأزمة. ذلك أننا الآن في موقف وموقع أفضل بكثير. فهناك لجنة وزارية، وهناك مبادرة تفصيلية، وقد زعم الصينيون والروس أنهم سيتجاوبون معها، وكذلك الأوروبيون. وعلى المجلس الوطني السوري أن يكون أكثر إيجابية تجاهها، بل إن ذلك ضرورة للثورة السورية . إذ لا يجوز ترك المبادرات والأدوار في أحضان الأميركيين والأتراك، وذلك لعدة أسباب: حساسيات السياسة الأميركية فيما يتصل بسوريا على الخصوص، ومنها أمن إسرائيل، والجوار مع العراق، والجوار مع لبنان، والوضع الاستراتيجي بالمنطقة ومتغيراته، ومن ضمنها الهياج الإيراني والهياج على إيران. أما تركيا فلديها اعتبارات الجوار والعلاقات الوثيقة السابقة بالنظام، والملف الكردي، والمشترك مع إيران في الملف الكردي والملف العراقي، واستراتيجيات المنطقة باعتبارها شريكا. إن هذه الاعتبارات كلها لا تعني أن الأميركيين والأتراك لا يريدون التغيير في سوريا، وإنما يريدون «ترتيبات» تراعي في المرحلة الانتقالية التي تصاحب أو تعقب تَداعي النظام السوري أو سقوطه. وكل ذلك لا يفيد فيه، ولا يقلل من آلامه بل يزيد من تقوية المجلس الوطني بالاعتراف والدعم، وبالبقاء تحت مظلة الجامعة العربية. سوريا بلد عربي عزالسعيز ورئيسي. والثورة السورية، بطرائقها في العمل وشعاراتها وتضحياتها، وتعقيدات ذلك النظام المركب، تتحول إلى جانب اليمن سيدة لحركات التغيير العربية. فالمطلوب أن نبقى عربا أولا وآخرا. فالعروبة صارت عبئا، وينبغي عن طريق التضحيات السورية أن تعود مدخلا وميزة. وإذا أخرج الشعب السوري الجمهورية العربية السورية - بدعم العرب وعملهم - من مآزق الترتيبات والتركيبات، فإن بلاد الشام (وهي مهد العروبة الحديثة) ستكون كما غبرت ميزان العروبة واستراتيجياتها في العقود المقبلة. إنه أمر مصيري لسائر العرب، ورافعته اليوم ثورة الشعب السوري، فلا يجوز الخطأ في التقدير ولا في التدبير، ومن ضمن ذلك الانسياق وراء الأوهام! نقلا عن الشرق الاوسط السعودية