أعترف في البداية أن الموضوع الذي سأتحدث عنه قد لا يندرج بشكل دقيق وقانوني ضمن مصطلح الفساد الإداري حسبما هو متعارف عليه لدى شراح الأنظمة ، كما لا أتوقع أن تتجه هيئة مكافحة الفساد نحو اعتماد تعريف مغاير للتعريف السائد لجريمة الفساد الإداري والذي يدور غالباً حول " إساءة استخدام الوظيفة العامة من أجل تحقيق مصالح مادية أو معنوية خاصة " . لكنني في ذات الوقت أجد في الظاهرة التي سأتكلم عنها استفزازاً لكل مواطن صالح محب لوطنه وساع نحو رقيه ونهضته ، هذه الظاهرة الاستفزازية هي ما تطالعنا به الصحف بشكل دائم من تصريحات لبعض المسؤولين في الجهات الحكومية سواء أكانت على لسان المسؤول الأول أم على لسان الناطق الإعلامي أو الرسمي لتلك الجهة، وتتضمن الحديث عن إنجازات وخطوات إصلاحية كبيرة وطموحة لكنها مجرد إنجازات ورقية أو كما عبّر أحد الروائيين: كائنات حبرية . فتجد ذلك المسؤول يعدُ بالمشاريع ويبشر بالإصلاحات والإنجازات التي ما أن يسمعها السامع ويقرأها القارئ حتى يخيل إليهما أن تلك الوزارة أو الإدارة وصلت لأعلى درجات التميز والريادة والسبق، وأنها أصبحت تقدم خدماتها للجمهور وفق معايير قد لا تكون وصلت إليها بعض الدول المتقدمة . وإذا ما تفحصت ذلك التصريح جيداً وجدته مجرد وعود تؤكد أن الوزارة سائرة نحو تحقيق هذا الإنجاز أو ذاك، ولم يبق بينها وبينه إلا .. (مجرد التمديد لوزيرها أو رئيسها ليكمل ما بدأه من إصلاح وتطوير) . ثم إذا قُدّر لك أن تقوم بزيارة تلك الوزارة أو الجهة والتعامل مع خدماتها، أو كنتَ من المراجعين لها بصفة مستمرة بحكم طبيعة مهنتك فإنك تعجب كل العجب بين ما يبشرُ به ذلك المسؤول أو المتحدث الرسمي من مستقبل لا تكاد تصدقه الأحلام (أي العقول أو الآمال)، وبين الواقع المتردي المتواضع البعيد كل البعد عن النهوض لأدنى درجات الخدمة المقبولة ، ما يجعلك تتساءل بدهشة لا تنتهي : هل يملك ذلك المسؤول عصا كعصا موسى تحول له البحر تراباً فيستعملها لتحويل هذا الواقع البئيس إلى مستقبل باهر خلال أشهر ؟! أم أن هذا المسؤول حين تصريحه لم يفكر ولو للحظة باحترام عقل المواطن وصيانته عن الاستخفاف ؟ أم لم يخطر بباله أن هناك جهةً يمكن أن تسأله يوماً عن مصداقية ما وعد به قبل عام أو أشهر ؟ وهذا التساؤل الأخير هو الذي جعلني أتأمل وأفتش يمنةً ويسرة عن جهة رقابية يمكن أن يجيز لها نظامها المساءلة والرقابة على مثل هذه التصريحات، وتتبع ِ ما تنطوي عليه من إهمال أو تهاون في الحرص على مصداقية وأمانة الكلمة التي أكد خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - في أكثر من مناسبة على وجوب رعاية حقها والمحافظة عليها ، فأمانة الكلمة لا تقتصر على الكتاب والصحفيين فقط ، بل تشمل، وبطريق أولى، المسؤولين كلّ حسب موقعه من المسؤولية . أعتقد أنه ما من مواطن أو قارئ إلا وقد علِقَ في ذهنه تصريح أو أكثر سبق أن قرأه أو سمع به لأحد المسؤولين منذ سنة أو سنين من هذا النوع من التصاريح ، طارت به الريح ولم يعد له أثر ولا ذكر ، وما عاد أحد يسأل عنه ذلك المسؤول أو يطالبه بالوفاء به . وإذا ما وسعت الدائرة قليلاً لتشمل التصريحات الإعلامية التي تتحدث ُ عن قضايا مما ينشغل بها الناس وتتعلق بجوانب مهمة في حياتهم فيطالعهم المسؤول بتصريح يفيد أن القضية الفلانية أو الموضوع الفلاني حالياً محل البحث والدراسة وقيد النظر ، ثم تمضي السنين تلو السنين دون أن تتمخض الدراسة عن نتيجة ، فعندئذ ستكون الدائرةُ أوسع كثيراً بدرجة قد لا تطيق أي جهة ملاحقتها، ولا تتبعها أو الرقابة عليها ، ولهذا فإنني أفضل استبعاد هذه الصورة من حديثنا والاقتصار على ما يتضمن حديثاً عن إنجازات ورقية بصفة الجزم واليقين والتبشير بها وكأنها أصبحت واقعاً ملموساً وهي ما تزال أشبه بالسراب ثم يطويها النسيان، وقد يأتي المسؤول اللاحق ويؤكد أنه لا وجود لها أو أنها كانت مجرد آمال وخطط وتطلعات لم يمكن تحقيقها . هذا النوع من التصريحات بقدر ما يحمله من إيذاءٍ لمشاعر المواطنين ، وتحطيم لآمالهم وفقدانهم الثقة في كلمة المسؤول ، بقدر ما أرجو أن يكون ذلك محل اهتمام ومتابعة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ، بأن تجعل ضمن أعمالها محاسبة أو على الأقل مساءلة من يصدر عنهم مثل هذه التصاريح عن نتائجها وما تنتهي إليه ومصداقيتها ، فمن تحدث عن إنجاز في إدارته سواء أكان يذكر تحقيقه أم يعدُ بتحقيقه والبدء في تطبيقه خلال شهر مثلاً ، تسائله الهيئة الموقرة وتتابعه لإنجاز ما وعد به ، وبهذا يعلم كل مسؤول أن للكلمة مسؤولية ، وأنه لا مكان للتبشير بمستقبل زاهر قريب بينما الواقع لا يصل للحد الأدنى المقبول من الخدمة في إدارته ، كما أن هذا النوع من المساءلة والرقابة يجعل الكثير من المسؤولين يلتزمون بما التزم به ولاة الأمر - حفظهم الله - الذين يسيرون على منهج طالما أكدوه في كلماتهم : ( أن الأفعال هي التي تسبق الأقوال وليس العكس ) وبهذا يريح المسؤول ويستريح ، ويتوجه نحو العمل الفاعل الإيجابي بدل الانشغال بالتصريحات التي لا يقصد بها سوى الاستهلاك الإعلامي وملء الفراغ بالأقوال . وأخيراً فإذا كان ولابد من إيجاد رابط نظامي بين هذا السلوك، وبين جريمة الفساد الإداري فقد أجده مندرجاً تحتها إذا ما أخذنا بالاتجاه الذي يُعرّف الفساد الإداري بأنه :" سلوك منحرف عن الواجبات والقواعد الرسمية للدور العام نتيجة للمكاسب ذات الاعتبار الخاص " كما أشير إلى أنه مع كثرة التعريفات لجريمة الفساد الإداري إلا أن شراح الأنظمة متفقون أنها اجتهادية بحتة، وأن تغير الأعراف له أثر في تحديد المعايير التي تحكم تلك الجريمة ولهذا فلا أجد ُ لهذه التصريحات التي لا تتحرى الواقعية ولا الدقة ولا تتناسب أبداً مع واقع الجهة الحكومية التي صدر التصريح عن رئيسها ، لا أجد لها أشبه ولا أقرب من هذا التعريف لكونها عند التأمل تهدف في المقام الأول إلى صنع إنجازات متوهمة لذلك المسؤول وتلميع صورته إعلامياً ، مع اطمئنانه التام لعدم وجود جهة تملك حق مساءلته عن ما وعد أو أخبر به من إنجاز أكان حقيقة أم وهماً . وختاماً أعان الله الهيئة الفتية على ما حمّلها خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - من أمانة ندرك جميعاً ثقلها وجسامتها ، ويكفي هذه الهيئة فخراً ثم ثقلاً في المسؤولية أنها تجسد الحلم والطموح والأمل السامي له - أيده الله - وأنها أداته وسلاحه الذي أشهره في معركة الإصلاح وحرب الفساد.. وفق الله القائمين عليها وسددهم وحقق بهم وبجهودهم الطموح والأمل وما ذلك على الله بعزيز ، والحمد لله أولاً وآخرا.. نقلا عن الرياض