فجأة صار الكل، في العالم العربي، قضاة يقيمون غيرهم ويبيضون صفحاتهم أو يلطخونها، دون ضابط من علم أو رابط من حلم، فقط التشهي والتخرص وحاجات النفوس. المسألة بدأت في تونس من خلال تصنيف مشاهير أهل الفن في مواقفهم من «ثورة اللوتس» كما سميت، ثم وصلت الأمور إلى غاية المهزلة في الحالة المصرية حيث تهافت من يريد الشعبية إلى ميدان التحرير، وكالعادة كان الفنانون، من ممثلين ومغنين، يتهافتون لميدان التحرير لتقديم فروض الولاء والطاعة إلى المحتشدين «الغامضين» في الميدان، بعضهم قبله الهاتفون وبعضهم رفض. الأمر لم يقتصر على الفنانين بل تجاوزهم إلى أهل الإعلام والسياسة، والكل فجأة صار قديم النقد لنظام مبارك، وصار أيضا من أشد أنصار ثورة ميدان التحرير، وتحول الأمر بالفعل إلى حملة «مطاردة ساحرات» في الصحافة المصرية والفضائيات، وفي مثل هذه الأجواء لا تسأل عن الحقيقة والدقة، فالحقيقة كما نعلم هي أولى ضحايا الحروب! المضحك في الأمر أن هذه الموجة وصلت إلى دول الخليج، وهي الدول «المختلفة» حالا ومآلا عن البقية، ففي بداية الأحداث في مصر تفاعل كثير من أهل «فيس بوك»، و«تويتر» بل والمقالات الصحافية في ملاحقة كل من أظهر رأيا نقديا أو متحفظا ولو بخجل تجاه ما جرى في مصر، وصدرت قائمة شرف ولائحة عار ضد هؤلاء، ناهيك عن لغة التشفي والشتائم ضد كل من خالف حفلة التصفيق والهتاف العامة لكل ما جرى في مصر، ثم هدأت العاصفة قليلا بعدما ذاب يوم حنين في شمس الرياض ولم يحدث شيء مما توهمه الكثير من الثوار الافتراضيين. هنا انقلبت المعادلة، فصار مطارد الأمس طريد اليوم! وانطلقت حملة هجوم وتصنيف وطنية ضد من كان يشجع على التظاهر أو يخوف به إن لم يستجب له فيما يطالب به من طلبات سياسية، وللأسف صارت الحملة المضادة أكثر شراسة وضراوة. والآن دخل إلى حفلة التخوين والملاحقة بعض وعاظ الصحوة والتيار الأصولي المسيس في السعودية بحجة «الوطنية» هذه المرة، وبأنهم، أي وعاظ وخطباء الصحوة، هم أهل الوطنية وغيرهم أهل الخيانة، لأن الآخرين هم من وقع البيانات وحرض على المظاهرات.. الخ. غني عن القول طبعا أن هذا الكلام، لمن يعرف حقيقة ما جرى في السعودية، كلام سخيف وغير أمين، سخيف لأن استغلال هذه الأجواء المتأزمة - والعابرة - لتصفية حسابات قديمة مع مخالفي الصحويين هو نوع من التذاكي الساذج جدا، ثم هو كلام غير أمين لأن السواد الأعظم من موقعي عرائض الاحتجاج الأخيرة في السعودية، بل ومن مصدري «فتاوى» إباحة المظاهرات والتشريع لها قبيل يوم حنين هم من شيوخ وفعاليات الصحوة في السعودية، دون الحاجة لذكر الأسماء، فخطباء الصحوة الذين تهافتوا على الوطنية فجأة يعرفون الأسماء أكثر من الجميع! بكل حال، ما يجري الآن هو استغلال لأجواء الزحام والفوضى، في النشل والشتم وكل مشين من الأفعال، وعادة تضيع هوية الجناة في ضجيج الزحام.. [email protected] نقلا عن الشرق الاوسط السعودية