من أسوأ الأمور سوء الظن بالغير، وخصوصاً التخوين في الولاء للوطن، ولكن في المقابل من أسوأ الأمور حسن الظن بالغير حينما لا تجد الرصيد الكافي لتعبئة هذه الدعاوى، وعلى وجه أخص في حال الشدائد. ولكن هل يعني هذا أن نغرس رؤوسنا في الرمال، في حين أن عيون البصيرة فضلاً عن البصائر قد كتب الله لها ما يكشف عن الحقائق، ويسقط الأقنعة، والتي طالما خدرتنا بمقالات وخطب في أوقات الرخاء، والتي حينها لم تبارح الأقوال إلى الأفعال، فكيف في حال الشدة حين غابت حتى الكلمات؟ ونحن في هذه البلاد وعلى مدى قرون من الزمان نعيش فيما بيننا بكل أخوّة ومحبة، ومهما اختلفنا في وجهات النظر، فيبقى الولاء للوطن وولاة أمره الذين هم صمام وحدته وأمنه، وفي الشدائد نتوحد، ونتناسى اختلافاتنا التي لم نجعلها في يوم من الأيام خلافات تفرق بيننا. ولكن في المقابل، هناك فئات من المواطنين على العكس تماماً، فنحن حينما نختلف حال الرخاء إلا أننا نتوحد حال الشدة، وأما هم فيتحدون مع إخوانهم المواطنين ولو بالأقوال حال الرخاء، ولكنهم يختلفون عنهم بل ويخالفونهم حال الشدة، وهذا الاختبار العفوي كشف عن الحقائق لذي عينين. وإن كان هناك من يقول بأنه لا يجوز نسبة القول إلى ساكت، فنقول أولاً بأنه لا يجوز السكوت في معرض الجواب، والسكوت فيه جواب، فإن كان مَن حوله يسيئون فسكوته هو تأييد لهم، وإن كان مَن حوله يصلحون فسكوته كذلك، فما بالكم إذا كان السكوت لا يمكن أن تجد لحسن الظن فيه مناطاً. وحتى الذين عارضوا من الفئة الكبرى فإنهم اكتفوا بتقديم العرائض وبشكل سلمي ولو كان غوغائياً، ولكنهم لم يُسيِّروا المظاهرات في وقت يمر فيه الوطن بمرحلة حساسة على أمنه واستقراره، وأما الفئة الأخرى فلم تكتف بتسيير المظاهرات فضلاً عما يقال في تلك المسيرات من كلمات مخدرة ومخادعة، وإنما تطورت شيئاً فشيئاً نحو ما تكنه نفوسهم، فأظهرت الحقد للأخ المواطن والولاء للغير، مع أن هذا الغير يعلنها بصوته الجهوري وبكل صفاقة أن هدفه تغيير الخريطة، والأسر الحاكمة، ونحو جمهورية طائفية وعلاقات خارجية، ويأتي الدعم اللوجستي التحريضي من رجال يخرجون على الفضائيات وبكل حماقة ليكشفوا عن مكنون نفوسهم نحو أوطاننا وشعوبنا. وإنني على يقين جازم وبدافع من حسن الظن أن الغالبية منهم يعيشون في حالة اختطاف من قبل أقلية قد تم تسييرهم لأجندات أجنبية، ولكن من حقنا كمواطنين فضلاً عن كتَّاب للرأي أن نتساءل عن جيل الشباب فيهم، والذي ثار إخوته في بعض الأقطار ضد الاستبداد بكل أشكاله، سواء أكان سياسياً أم دينياً؛ حيث إن في وطننا أكثر من ثلثيْ الشعب هم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاماً، ولذا فبدلاً من أن يثوروا على من استعبدوهم واستغلوهم لأجنداتهم؛ إذ بهم يثورون ضد مصالحهم ولصالح غيرهم، وهنا الفرق الشاسع بين شاب في ميدان التحرير لا يحركه سياسي مستبد، ولاديني مستعبد، وبين شاب مختطف نحو تابوهات متوارثة لم يأت الوقت الذي ينعتق منها نحو سعة الحرية والاستقلال بدلاً من الاستبداد الديني والاستعباد الطائفي. ومع ذلك فبدأنا نستبشر خلال الأيام الأخيرة ببوارق أمل جديد، وذلك عبر كتابات شابة تبعث على التفاؤل نحو ثورة داخلية للتحرر من الأسْر والاختطاف الفئوي، باتجاه عالم الإنسانية الفسيح والأخوة الوطنية الطاهرة، وبعيداً عن الانقياد الأعمى لغير الله تعالى، وإذا كنا نحن نتحمل في كل يوم ما يأتينا لقاء نقدنا الذاتي وسعينا في الإصلاح الداخلي، فيجب على الجميع أن يبادر ويتشجع ويتحمل الثمن للمصلحة العامة. ولأن الاختلاف الطائفي على مدى القرون كان في غالبه بعيدًا عن التصعيد والتحارب، ولكن ما أن يدخل الغلو الديني والمطامع الدنيوية حتى تذكي هذا الاختلاف، ليكون الجميع حطب تدفئة لتلك الحماقات، التي ليست بالضرورة أن تكون داخلية، فقد تكون بدوافع خارجية عرفت كيف تفرق من أجل أن تتسيد. وإن كان التمييز الطائفي بين المواطنين في بعض البلاد هو المشجع للصراع، فإن الخطاب الديني وتعبئته الطائفية عبر الشحن في نقاط الخلاف والاستحضار الدائم للتاريخ هو الأخطر، كما أن الاستغلال الطائفي لبعض القوى الإقليمية لأهداف توسعية ومطامع قومية لا دينية هو المثير للشفقة على أولئك الهائمين بتلك الجهات التي دللت الوقائع التاريخية وحتى المشهد الحاضر النية الحقيقية لتلك التصرفات، وفي الوقت نفسه نجد في الجانب الآخر تصاعد وتيرة الخطاب الطائفي عبر العنصر الديني بفتاوى تكفيرية وخطب متطرفة وبيانات للتخوين تدفع البقية الباقية إلى الابتعاد المعنوي وبلا وعي أحيانًا نحو حضن الآخر الذي يزعم بأنه ملاذ دافئ، وذلك على حساب اللحمة القومية والوطنية. والمصلحة المشتركة للجميع بأن يتحدوا ولو كانوا مختلفين، وما يحصل في أوطاننا العربية خلال هذه الأيام أكبر دليل على خطورة هذه الشحنات الطائفية على الدين والدنيا، ولابد من تعاون الوسطيين في جميع الطوائف على الالتقاء والتقارب والمزيد من التعايش، على أن يكون ذلك بنية صادقة وثقة متبادلة. وإذا كان وراء كل استعمار شعب قابل للاستعمار، فإن وراء كل صراع طائفي طوائف قابلة للصراع عبر ما يغذيه البعض في الطرفين من تعبئة قابلة للانفجار في أي لحظة، مع أنه لا ديننا يقبل بهذا، ولا دنيانا تسمح به، ولكننا نخطئ درجة الخطيئة، حينما نترك للمتطرفين في الطرفين تصدّر القيادة والتغذية الروحية والشحن العاطفي ضد الجميع. ومما لاحظته التبرير لكثير من الأخطاء بأخطاء أكبر منها، فتسمع من هذا الطرف أن الآخر ولاؤه لثالث، مخونًا له ودافعًا للكثيرين إلى مزيد من الاحتضان الوجداني قبل الفعلي للآخر ليفرح به ذلك الثالث عبر فرحه بتلك التخوينات التي تقرب الآخر إليه وتبعده عن أخيه بمثل هذه التصريحات الهوجاء والتصرفات الحمقاء، في حين نجد أن الآخر يبرر لشحنه اليوم عبر ما يستحضره من تراثيات غابرة لا تسمن ولا تغني من جوع، ويغذيها وبشكل مستمر عبر المواسم المتوالية والمناسبات المتكاثرة التي تبعد الآخر عن الأول وتحمله أوهامًا لا حقيقة لها. ومن المتناقضات أن نجيز لأنفسنا التعامل مع كل مختلف عنا وحتى مخالف لنا، سواء في الدين أو السياسة، ثم لا نجد من يقيسه فضلًا عن الأولوية في سبيل التعايش الدنيوي إن لم يجد أي باب للتعايش الديني بين جميع الأطراف. والوطنية جبلّة بشرية وفطرة إنسانية أصلها ثابت وفرعها في السماء تطول وتنمو بقدر ما ينالها من حقوق المواطنة، ولكن في الوقت نفسه لا يجوز أن يُقصَّر في الواجبات فضلاً عن العقوق ناهيك عن الخيانة تحت تبرير دعوى انتقاص هذه الحقوق، وليس من المصلحة العامة والوطنية المشتركة وحتى الدين أن تُعبأ الجموع على خلاف ذلك ويصبح العقل اللاواعي هو الذي يقود الأبصار والبصائر نحو المزيد من التفرقة والتباعد، وإن كان الآخر بعيداً عنا جميعًا، ولا يريد بنا كلنا أي خير، فليس من الدين والسياسة والعقل والحكمة أن نعطيه طلبه على طبق من ذهب. والنية الحسنة والثقة المتبادلة والممارسة الطيبة هي التي تكفل التعايش بين الأخ وأخيه في ظل وطن واحد، ولو اختلفا فيما يعتقدانه، فالدنيا حق مشترك للجميع، وفي الآخرة لن يُظلم أحد عند رب العالمين. وليكن شعارنا دائماً: الولاء الوطني أولاً.. نقلا عن الرياض