عزيزي القارئ هل سمعت عبارة ''إن هذا العمل مؤسسي؟''.. هل أخبروك وحاولوا إقناعك بأن هذه مؤسسة حكومية وأن أعمالها تتم وفق عمل مؤسسي؛ لذا عليك ألا تناقش ولا تسأل ولا تستفسر ولا تعلق؟ هل تحرجت من أن تسأل ماذا تعني هذه الكلمة وما تأثيرها في الخدمات التي يقدمونها؟ لا تتعب نفسك فلن تجد إجابة مقنعة ولا شافية فلم أجد كلمة تحملت وِزر الأخطاء الإدارية لدينا مثل هذه الكلمة - العمل المؤسسي. وسأتطفل على أصحاب علم الإدارة قليلا وليعذروني إن قصرت في الشرح، لكن من المهم أن نعرف معنى هذه العبارة قبل أن نكمل هذا المقال. العمل المؤسسي ببساطة لا يعتمد على الأفراد، بل على الإجراءات ثم الإجراءات ثم الإجراءات. إجراءات واضحة دقيقة ومكتوبة يتم تنفيذها بدقة عند التخطيط وعند التنفيذ وعند الرقابة والتوجيه والمحاسبة والتقييم. إجراءات مكتوبة متاحة ليست في عقول البعض دون البعض ولا أدراج البعض دون الباقين؛ وذلك حتى لا تتسلط وظيفة على وظيفة ولا موظف على الآخرين، كائنا ما كان منصبه. في العمل المؤسسي الجميع يعمل لدى المؤسسة (لدى إجراءات المؤسسة) وليس لأحد فضل على أحد إلا بالإنجاز. العمل المؤسسي لا يتأثر بعزل مدير وتغيير قائد أو إجازة موظف ونقل آخر، فالإجراءات هي الإجراءات والمهام هي المهام والمسؤوليات لا تتغير والعمل موجود داخل المؤسسة ينتظر من يؤديه فقط، من ينجزه من يطوره لا من يهيمن عليه. إن العمل المعتمد على الإجراءات المكتوبة الواضحة والمهام المعلنة والشفافية في التقييم يخلق بيئة صحية تنافسية خصبة خلاقة. لكن هناك من لا يحب هذا النوع من العمل؛ لأسباب نعرف القليل منها ونجهل جلها. في غياب العمل المؤسسي الحقيقي تنتشر ثقافة خطيرة في مؤسساتنا الحكومية، بل أعدها من أخطر الثقافات التي نعانيها. إنها تلك التي أسميها ''ثقافة أبو العريف''. و''أبو العريف'' هذا هو موظف تجده في كل مؤسسة حكومية تقريبا، فهو يعمل في كل اللجان ومتخصص في كل شيء، ويفهم كل صغيرة وكبيرة، كل شاردة وواردة، إنه سوبرمان الدوائر الحكومية وحلال المشكلات فيها. مُعيَّن بمسمى وظيفي ومرتبة، ومع ذلك لا تعرف له وظيفة ولا مهمة ولا له مكتب ولا تضبطه إجراءات أو رقابة. فلا تكاد تشكل لجنة إلا وتجده فيها إما رئيسا وإما عضوا، ولن تصدر لها قرارات إلا ما يقرّ لها به، مقنع للرؤساء وغير مقنع للزملاء، البعض يدعوه المُخْلِص المتفاني والبعض يراه متسلقا ومنافقا. وفي ظل عمل لا يتسم بالإجراءات الواضحة المعلنة والمهام الصريحة فإنك تجد ''أبو العريف'' هذا في مكتب الصادر أحيانا، وفي مشروع متطور لنظم المعلومات أحيانا كثيرة، في مشروع المبنى الرئيس وتجده يحلل وضع مبنى الفرع، تأتي التقارير إليه وترسل منه بدلا عن اللجان المقررة نظاما وفق الإجراءات المعلنة. قد تستغرب سطوته داخل المؤسسة وتندهش إذا عرفت مرتبته الوظيفية غير المتناسبة مع تلك السطوة والحظوة. لا تكاد تراه يأخذ إجازته السنوية، وإذا غاب لظرف طارئ تعطل العمل وغابت الإنجازات وتخبط الموظفون. إنني أراه مرضا إداريا خطيرا معديا ينتشر كلما ابتعدت مؤسساتنا عن العمل المؤسسي الحقيقي وكلما تم تهميش الإجراءات والإغلاق عليها وعلى النظام في الأدراج. ضحايا ذلك المرض كثير، وكل موظف جديد تضيع هويته في مؤسسة لم تُعَرّف له مهامه وعمله وتحمله المسؤولية عنها رغم المرتبة ورغم التخصص، بل قد تمر السنوات ولم يعرف لماذا وماذا يعمل، ولما يرَ بعينيه قائمة بمهامه وخطة لعمله .. فأين منا العمل المؤسسي؟ وكلما سمعت عن طموحات وزارة التعليم العالي وإجراءات التخطيط الاستراتيجي وضبط الجودة والرقابة والتقييم كضوابط للعمل المؤسسي، استبشرت خيرا، وإذا نظرت لحال الجامعات السعودية، خاصة الجديدة منها خاب ظني. فإذا كنا نشتكي من انتشار مرض ''أبو العريف في المؤسسات الحكومية''، فإننا بدأنا نشتكي منه ومن مرض آخر أشد فتكا بدأ ينتشر في جامعتنا الجديدة على وجه الخصوص. إنه مرض القبلية. وأعرف أن هناك من سيتهمني بتهويل القضية لمجرد حالات استثنائية، لكنني أعتقد أن الموضوع أشد خطرا وأعمق تغلغلا مما نعتقد. إن التفاته لهذه القضية الآن أولى من محاربتها غدا بعد أن تغرس جذورها فينا، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج. قبلية مقيتة بدأت تنتشر في الجامعات، فلا يُعيّن المعيد إلا بعد ضمان أنه من قبيلة كذا التي تستقر الجامعة بين ظهرانيها، والتعليل بسيط ومقنع فهو الذي سيبقى في الجامعة وسيخدمها والباقون سيرحلون إلى جامعاتهم بعد الحصول على المؤهل المطلوب، ثم لماذا رفضته جامعته هناك ليأتي إلينا؟ هذه هي الجودة وهذا هو التخطيط. لقد أصبح الولاء لمقر الجامعة وليس للعلم والوطن. قضية شائكة جدا وتزداد خطورة كلما كان التعيين على المناصب الأكاديمية يخضع لمعيار القبلية، وليس لمعايير الكفاءة والإبداع العلمي، تعيينات بلا إجراءات معلنة وعملية واضحة صريحة، تقابلها إجراءات معلنة موثقة شديدة الصرامة على الترقيات الأكاديمية وإذا كنت أقدّر تلك الإجراءات الصارمة في الترقيات، فإنني أستغرب كيف تتم التعيينات في المناصب الأكاديمية التي تتولى تلك تنفيذ الإجراءات بلا إجراءات واضحة ومعلنة أيضا ذلك تناقض غريب، ولا ينبئك مثل خبير. هذا التساهل في إجراءات التعيينات في المناصب الأكاديمية جعل البعض يحاول أن يصنع هيمنة لقبيلة معينة داخل الجامعة بحجة أن التعيين يتم وفقا للكفاءة وكلهم أكْفاء ونعم للكفاءة أين ما كانت والولاء لله.. ثم المليك والوطن، ولكن لنحذر من القسمة الضيزى. هذه أهم الأمراض الشائعة في مؤسساتنا الحكومية تنتشر لتعطل وتخرب باسم العمل المؤسسي، فهل من دورات تدريبية موسعة وشهادات لكل مسؤول وكل مدير عن معنى العمل المؤسسي؟ نقلا عن الاقتصادية السعودية