تحتلّ القضايا السياسية والاقتصادية مساحة واسعة من معارض الفن التشكيلي المعاصر في العام 2015، هذا إن لم تكن هي الطاغية أو الثيمة الأساسية للتظاهرات الكبيرة مثل بيينالي البندقية والشارقة ولندن وإسطنبول. وها هو بيينالي موسكو يتأهب لافتتاح دورته السادسة في 22 أيلول (سبتمبر) الجاري، بعنوان «العيش المشترك»، وهي قضية سياسية اجتماعية تهدّد بلاداً كثيرة من الشرق وتشعل حروباً إقليمية اليوم. وهذه الحروب ليست جديدة على المنطقة الغنية بدياناتها وإتنياتها المتعددة، وخير من جسّد هذه القضية هذا العام بيينالي إسطنبول الذي افتتح أخيراً ويستمر حتى الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ويحمل في دورته الرابعة عشرة عنوان «المياه المالحة: نظرية أشكال التفكير». مديرة البيينالي، الأبرز في الشرق الأوسط، وهي كارولاين كريستوف باكارغييف الإيطالية – الأميركية من أصل بلغاري التي نظمت كثيراً من التظاهرات الفنية العالمية مثل «مهرجان دوكومانتا» وشغلت مناصب مرموقة على صعيد المتاحف، كمديرة لمتحف «Castello Di Rivoli» في تورينو، تقول إنها «لا تتعاطى السياسة ولا تؤمن بها بل بالفن». لكن اختيارها ثيمة «المياه المالحة» هو بذاته فعل سياسي، فهذا العنوان يحمل كثير من الإسقاطات والتأويلات السياسية الاجتماعية والدينية، خصوصاً أن المعرض في إسطنبولالمدينة العثمانية الجميلة الواقعة بين ضفتي البوسفور المالحة مياهه إلى حدّ «الموت». وهنا كانت تصدر أوامر الباب العالي الحديدية الجبارة والتي حكمت بيد من نار آسيا الصغرى وأجزاء كبيرة من جنوب شرقي أوروبا، وغرب آسيا، وشمال أفريقيا، وهي المدينة التي شهدت هجرة قسرية للأرمن واليونانيين. وهي «معبر الموت» الآن لكثير من اللاجئين السوريين الذين لجأوا إلى مياهها المالحة لتكون «زورق النجاة» من نيران الحرب والعبور إلى أوروبا، ولكن تلك المياه «احلوّت» لبعضهم و»باتت مرّة حدّ الغرق لبعضهم الآخر. وهنا تمكن المفارقة في ثيمة البيينالي، بين الخير والشر أو بين القبح والجمال أو بين الموت والحياة، التي ترجمت في أعمال فنية تمثّل في غالبيتها تأثير السياسة على الإنسان في الماضي والحاضر. فالمياه المالحة «تحتاجها منظومتنا الجسدية كي نعيش، هي جيدة للتنفس وتهدّئ الشرايين، وهي نفسها التي توقف أجهزتنا الإلكترونية»، كما تشرح باكارغييف. وتجمع هذه التيمة تحت لوائها أكثر من 1500 عمل وأكثر من 80 فناناً من أفريقيا وآسيا وأستراليا وأوروبا والشرق الأوسط والأميركتين. وتتوزع الأعمال التي ليست بالضرورة ملتزمة بالثيمة ومجازاتها، على 36 فضاء (متاحف، قوارب، فنادق، بنوك سابقة، مدارس، حدائق، بيوت خاصة، محلات تجارية)، تنتشر في العاصمة التركية القديمة على ضفتي البوسفور الآسيوية والأوروبية.
إبادة الأرمن وعلى رغم الطريق المضنية للوصول إلى الفضاءات التي تعرض فيها الأعمال، والتي هي أشبه بلعبة «الكنز المفقود»، وعلى رغم فوضى توزيعها وعرضها، فإن البيينالي بدا جريئاً في التركيز على قضايا المهاجرين ومعاناة الاتنيات في غالبية معروضاته (فيديو، لوحات، تجهيز فني، منحوتات)، في قلب تركيا التي لم تعترف دولتها بعد بارتكاب المجازر في حق الأرمن الذين يحتفي من بقي منهم طيباً، هذا العام، بالذكرى المئوية لإبادتهم. فالأعمال الفنية الأجمل والأكثر قيمة في البيينالي هي التي تناولت الاضطهاد التركي للأرمن واليونانيين. أعمال قديمة وجديدة لفنانين عالميين، ليس كلهم من أصل أرمني، تتناول في شكل مباشر ما حصل في القرن العشرين، بدعم من مبادرة «Dilijan Art Initiative» التي تسلط الضوء على الإبادة الأرمنية من خلال الفن. وهذه القضية طرحت أيضاً في بيينالي البندقية في جناح تركيا تحديداً وفي جناح أرمينيا، من قبل عدد كبير من الفنانين الأرمن الذين جسدوا الشتات، ومنهم الفنان سركيس (1938) المولود في إسطنبول والمقيم في باريس، والذي يعرض صوراً حقيقية ومركّبة لمعاناة شعبه في «بيينالي إسطنبول». وعلى الأرجح أن مشاركة سركيس في البندقية والضجة التي أثارتها أعمال الأرمن هناك، خصوصاً بعد نيل الجناح الأرميني جائزة «الأسد الذهبي»، سهّلت عرض أعمال كثيرة تتناول الإبادة في إسطنبول منها 14 لوحة للفنان اللبناني – الأرمني الراحل بول غيراغوسيان (1926- 1993) الذي نجا وهو طفل من الإبادة. وهناك عمل يستحق المشاهدة يعرض في «مدرسة غلطه الابتدائية اليونانية» التي تحتضن عشرات الأعمال التي تتناول الأقليات العرقية في تركيا، وهو عمل للفنان مايكل راكوفيتسز الأميركي - العراقي اليهودي المقيم في شيكاغو بعنوان «الجسد لكم، والعظام لنا»، وهو مثل تركي قديم اتخذه عنواناً لعمله الضخم المجزّأ إلى 3 أقسام. وتتناول الأعمال التي هي عبارة عن عظام ومنحوتات وأشكال هندسية من الجفص محفورة على اليد، دور المهندسين المعماريين الأرمن في تشكيل البيئة العمرانية في القرن التاسع عشر في إسطنبول، وعلى رأسهم المعمار سنان الشهير الذين كان رئيس المعماريين خلال حكم السلاطين الأربعة: سليم الأول وسليمان وسليم الثاني ومراد الثالث. وهو مسيحي من أصل أرمني اعتنق في ما بعد الإسلام، أثير حول أصوله في السنوات الماضية جدل واسع في تركيا. وهناك مجموعة أعمال (فيديو، صور، خرائط، أغراض خاصة) للفنان البلجيكي فرانسيس أليس الذي قام ببحث عميق ليقتفي أثر قرية مهدّمة على الحدود التركية – الأرمينية، أسماها «قرية آني». هناك على الأطلال صوّر في فيلم بديع أطفالاً يأتون إلى القرية من القرى المجاورة، ويتواصلون مع أبنائها عبر «صفارات تقليد الطيور» التي يصدرونها من أفواههم، وكأنها صراخات خافتة لحياة ما كانت هنا حيث الكنائس القديمة والطبيعة الخلابة. بعيداً من متحف الفن الحديث، ومركزي «SALT Beyoğlu» و»ARTER» في شارع الاستقلال، تجبرك «حيوانات» الأرجنتيني أدريان فيلار روجاس الغريبة والضخمة، على زيارة جزيرة بيوكادا الجميلة وهي كبرى جزر الأميرات، مستقلاً الباخرة في طريق يستغرق 3 ساعات تقريباً، ذهاباً وإياباً. وهذه الرحلة هي من أجمل ما يقترحه بيينالي إسطنبول، حيث تستمتع بشمس المدينة الخلابة وبحرها ومناظرها الطبيعية، وتلتقي بناسها الحقيقيين وسياحها والمهاجرين إليها حديثاً من السوريين الذين يبيعونك كعكاً أو مياهاً معدنية أو قهوة أو «عرانيس» على متن الباخرة وفي المحطة. وعندما تصل تستقبلك أنقاض منزل ليون تروتكسي أحد أشهر الثوريين الماركسيين في العالم والذي نفاه ستالين من الاتحاد السوفياتي في 1929 فسكن هذا المنزل لأربع سنوات. ثم تفاجئك ضخامة «حيوانات» أدريان فيلار روجاس البيضاء الناصعة بأوساخها وبُقجها وعتادها على ظهورها، كأنها آتية من حرب ضروس أو رحلة طويلة شاقة. وهما عملان يحيلاننا إلى معاناة أي مضطهد في العالم، أو أي مهجّر ونازح من بيته، خصوصاً السوريين الذين تتفاعل قضية معاناتهم وتهجيرهم إلى مختلف البلدان الأوروبية، وتحتل مساحة واسعة في وسائل الإعلام العالمية، والفلسطينيين، والأرمن، واللبنانيين... في البيينالي هناك مشاركة كبيرة لفنانين من العالم العربي مثل ايتيل عدنان ومروان رشماوي وليد رعد وهايغ آفازيان وبول غيراغوسيان ووائل شوقي وآنا بوغيغيان وغيرهم ممن ذاقوا المياه المالحة وتأثروا برواسب تاريخها، وممن تآكلت مجتمعاتهم بسبب الاحتلال أو الحرب، وممن تلوّعوا في بحار المهاجرين، وممن فتحت جراحهم الدفينة وقُلّبت وأنتجت أعمالاً تحاكي ثيمة البيينالي. لكن المستغرب هنا، أن كل هذه الأعمال هي أعمال قديمة ولم تنفّذ خصيصاً للبيينالي، لذا أتت بعيدة من القضايا الآنية التي تتقاطع مع قضايا تركيا التي تستقبل ملايين اللاجئين السوريين وهي قضية ساخنة اليوم في الشرق الأوسط. كما لم نر أعمالاً تتطرق إلى الدولة الإسلامية وحكمها المتمدّد في المنطقة، ولا إلى قضية قصف الأكراد في تركيا، ولا إلى الجهاديين الذين يسيرون في طريق معاكسة لطريق المهاجرين. * رنا نجار